IMLebanon

أزمتا «التأليف» و«الحصص» بين الدستور والأعراف

 

على وقع الحملات المتبادلة تزامناً مع المساعي الجارية لتأليف الحكومة العتيدة، هناك مَن يرغب في أن يبقى الدستور بعيداً من ساحة المواجهة. وهو أمر يرفضه الخبراء الدستوريون الداعون الى وقف العمل بالأعراف والسوابق التي سادت عقوداً. وعليه، فإنّ العودة الى تطبيق الدستور سـتؤدي حتماً الى تأليف الحكومة. فهل هناك مَن يريد ذلك؟ وما هي المعوقات؟

على رغم الجهد المبذول الذي يعبّر عنه البعض في المواجهة السياسية الدائرة على خلفية تأليف الحكومة والسعي الى توزيع الحصص وتقاسم الحقائب «السيادية» وتلك الخدماتية «الدسمة»، فإنّ معظمهم يدرك أنّ ما يجري هو خارج الدستور. فآلية التأليف محكومة بمختلف مراحلها بما يقول به الدستور ولا يمكن تجاوزُها إطلاقاً إذا أراد المعنيّون بها وفي مقدمهم كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تأليف الحكومة الالتزام بها من دون أن يتنازل أيٌّ منهما عن حقه ودوره لأيٍّ كان.

منذ تكليف الرئيس سعد الحريري عبرت أولى المراحل الدستورية. وجاءت الإستشارات النيابية «غير الملزمة» التي أجراها الحريري في مجراها الدستوري الطبيعي. وما عدا هاتين المحطتين، بدأت مظاهر الخروج على الدستور واضحة. وعلى رغم وجود هذا الإقتناع لدى الخبراء الدستوريين فإنهم يتيحون مساحةً سياسيةً يمكن من خلالها «تطويع» النصوص الدستورية والقوانين المعمول بها. فهي في طبيعتها تسمح بالتفسيرات والإجتهادات الدستورية المحدودة. وهي قابلة أن تتأثر بما يمكن اعتبارُه موازين القوى على الساحة الداخلية وبما للأحداث الإقليمية من تأثيرات على الداخل، فمنطق الإستقواء بالقوى الإقليمية والقدرة على استثمارها في الداخل وارد في كل حين.

وعليه، فإنّ الخبراء الدستوريّين يتطلّعون في قراءتهم للمواقف والتحدّيات التي تعيشها مرحلة التأليف فيرون فيها خلافاً سياسياً يلبس لبوس الدستور عند بروز الخلاف حول الصلاحيات المُناطة بالرئيس المكلّف وطريقة تعاطيه مع رئيس الجمهورية. ولكن المادة 53 من الدستور واضحة وصريحة، بالصيغة التي قال بها القانون الدستوري الصادر بعد «الطائف» في 21 ايلول 1990. فجاء في فقرتها الثانية «أنّ رئيس الجمهورية وبعد استشاراته النيابية الملزمة يسمّي رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب بعد اطلاعه على نتائجها». ويصدر بموجب الفقرة الثالثة المرسوم «بتسميته لرئيس مجلس الوزراء منفرداً» على أن يصدر بموجب الفقرة الثالثة «بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم»…

وإذا شاء أيٌّ كان أن يتوقّف عند مضمون الفقرة الثالثة لا يمكنه أن يتحدث عن خرقٍ مارسه رئيس الجمهورية لصلاحيات الرئيس المكلف أو العكس، فإن رفض احدهما صيغة طرحت حتى اليوم لا يوقع في المحظور، فرئيس الجمهورية لم يخرج بعد عن مضمون الصلاحيات الدستورية الممنوحة له أو تلك التي بقيت له ما بعد «الطائف» إذ إنّ توقيعه مرسوم تأليف الحكومة بالإتّفاق مع رئيسها يلزمه بأن يكونَ موافقاً على الصيغة المقترَحة بكل تفاصيلها. وإلّا لا معنى لتوقيعه إذا كان سيبصم على «اقتراح» الرئيس المكلّف ونقطة عالسطر.

ولكنّ المعضلة التي يشير اليها الدستوريون ليست في ما سبقت الإشارة اليه وسط استحالة وجود أيّ خلاف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف أيّاً كانت المواقف متباعدة من التشكيلة، فالفصل بين صلاحيات الرجلين واضح. وانّ المشكلة السائدة اليوم تكمن في تنازل أيٍّ منهما عن صلاحياته أو دوره الى طرف ثالث. وفي الواقع فإنّ ما يقوم به المتدخّلون في عملية التأليف هم مَن سيتسبّبون بالخروق القانونية والدستورية ويشكّلون خطراً يمكن أن ينعكس على العلاقات بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف إن تبنّى أحدُهما رأي أحدهم أو سمح بدور لغيرهما.

ولإسقاط هذه النظرية الدستورية على واقع الأمور وترجمتها، فعندما يتدخّل طرف ثالث لا صفة قانونية أو دستورية له، في توزيع الحصص والحقائب بين القوى السياسية والتكتلات النيابية على قاعدة «الأكثر تمثيلاً» أو «الأقلّ تمثيلاً» من خارج ثنائية رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف يقع الخرق المشكو منه. ومن هنا ـ وعلى رغم إصرار البعض على إبقاء مفتاح الحلّ بيد الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية – فإنّ الجدل الدستوري يدور حول أدوار هؤلاء المتدخّلين وإصرارهم على تجاوز دوريهما، واعتبار مواقفهم وتدخّلاتهم خروجاً على الدستور. ذلك أنّ العودة الى ما يقول به يفرض إعادة الكرة الى ملعب «الثنائي الرئاسي»، واللذين في إمكانهما تأليف الحكومة اليوم قبل الغد وترك الأمور تأخذ مجراها الدستوري السوي والديموقراطي السليم فتنشأ في جلسة الثقة بالحكومة معارضة وموالاة ويستقيم الحكمُ وفق الدستور.

والى هذه المعضلة الدستورية الناجمة من الخلل السائد في عملية التأليف وتداعياتها المحتملة، لا يستسيغ رجال القانون والدستور النقاش الدائر حول ما قال به «تفاهم معراب» من تقاسم للمواقع الحكومية والإدارية مناصفةً بين التيار والقوات. ويعتقدون أنّ السعي الى ترجمته، ومعه استنساخ أحجام الكتل النيابية وإسقاطها نسبياً على التشكيلة الحكومية وموازين القوى فيها أمر مرفوض بكل المقاييس. وفي رأيهم، فإنّ الإتفاقات الثنائية من خارج المؤسسات الدستورية، كما العددية النيابية لا تتحكّم بالصيَغ الحكومية ولا تشكّل أساساً لها. فقانونُ الانتخاب الذي قال بالنسبية لا علاقة له بالتركيبة الحكومية ومعادلاتها على الإطلاق ويُعتبر الإحتكام اليه «هرطقة دستورية» لا سابق لها. فهل هناك من مسؤول يلتزم ويتّعظ؟!