لا يمكن لعاقل أن يقتنع بأنّ عقدة تمثيل تيار «المردة» هي التي تعوق ولادة حكومة الرئيس سعد الحريري، إذ يبدو أنّ «وراء الأَكَمة ما وراءَها»، وقابلُ الأيام سيكشف المستور، خصوصاً إذا لم تصحّ التوقّعات بصدور مراسيم التأليف أواخر الشهر الجاري أو مطلع المقبل.
منذ اللحظات الأولى للتكليف قال المعنيون به بتأليف «حكومة وحدة وطنية» جامعة لكلّ الأطياف والمكوّنات السياسية والطائفية والمذهبية، وهي حكومة يفرضها «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه، وذهبوا إلى العمل على ان تكون هذه الحكومة ثلاثينية لضمان اوسع تمثيل، ولكن مع تطوّر المشاورات وبروز مطالب التوزير هنا وهناك التي تفرضها مواصفات الحكومة الجامعة وشروطها، تراجَع المعنيون عن حكومة الثلاثين الى حكومة الـ 24 وزيراً، على ان تكون حكومة الرئيس تمام سلام نفسِها بعد تنقيحها في بعض الاسماء والحقائب، وهو ما عبّر عنه الحريري صراحةً لرئيس مجلس النواب نبيه بري في اللقاء الاوّل بينهما إثر التكليف.
وفي بدايات البحث في التأليف كان البعض يضع «فيتوات» على تمثيل هذا أو ذاك من الاطراف، ثمّ خرج لاحقاً من هذه الموقف ليقولَ بأن يكون التمثيل من حصّة هذا الفريق أو ذاك، من الذين تمسّكوا بأهداب حكومة الوحدة الوطنية والتي يفهمونها بأنّها تضمّ ممثلين للجميع حتى تكون بهذه الصفة.
ويسجّل فريق من السياسيين على هامش تأليف الحكومة ممارسة البعض ما يشبه «حرب إلغاء» خارجين على مبدأ الشراكة الوطنية في القرار الوطني مستهدِفين إبعادَ رموز وقامات سياسية كبرى لها علاقة تاريخية بالبنية الاجتماعية للبلاد، وكذلك لها بصماتُها في الحياة السياسية اللبنانية الحديثة والمعاصرة.
حزب الله تمنّى خلال تواصُل معيّن مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ضرورةَ ان يُراعى في تأليف الحكومة تمثيل رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية بحقيبة اساسية، والذي كانت الرئاسة قد انقادت اليه (إثر ترشيحِ الحريري له) لولا «شهامتُه» في التزام موقف الحزب المتمسّك بترشيح عون بعدمِ النزول الى جلسات الانتخاب على رغم إدراكه انّ نزوله سيؤدي الى انتخابه من دون حاجة الى اصوات الحزب وتكتّل «التغيير والإصلاح».
ويقال إنّ عون أخَذ برأي الحزب وإنّه اقترَح إسناد حقيبة وزارة التربية لفرنجية، وهو ما ظهر خلال اللقاء الاوّل بعد التكليف بينَه وبين الحريري، ثم تبيّن انّ الاخير، وحسب ما ابلغ الى بري، اقترَح هذه الحقيبة على فرنجية لكنّه رفضَها، فردّ رئيس المجلس على الحريري، بأنّه إذا كانت هذه هي العقدة المتبقية امام ولادة الحكومة «فإنّني مستعد للتدخّل ومعالجة الامر مع فرنجية لأنّ هذه الحقيبة اساسية».
بل إنّ بري قطع عهداً لفرنجية بأن لا يشارك في الحكومة ما لم تمثّل «المردة» في الحكومة وبحقيبة اساسية. ويردّد بري هذه الايام انّه عند عهده لفرنجية ولن يتراجع عنه مهما كلّف الأمر…
لكنّ شيئاً ما حصل لاحقاً، وأظهرَ تراجع المعنيين بالتأليف عن إعطاء «التربية» لفرنجية ليستقرّ الرأي على الإبقاء له على حقيبة وزارة الثقافة التي يتولّاها حالياً ممثّله روني عريجي، إلّا أنّ فرنجية يرفض ذلك ويطالب بحقيبة اساسية تحت طائلة عدم المشاركة في الحكومة نهائياً، ويتضامن معه حلفاؤه ولا سيّما منهم بري وحزب الله في هذا الموقف.
ويبدو أنّ الخلاف على حقيبة فرنجية يُراد من خلاله التعمية عن العقد الأخرى التي تعوق الولادة الحكومية، فعون والحريري باتا يتمسّكان بشدّة بحكومة الـ 24 وزيراً ويرفضان توسيعَها لتكون ثلاثين وزيراً، إذ في حساباتهما انّهما لا تفيدهما في شيء، فهما يستفيدان منها بأن يأخذ رئيس الجمهورية وزيراً من الحصّة الشيعية مقابل تنازلِه عن وزير مسيحي، والحريري يأخذ وزيراً مسيحياً مقابل تنازلِه عن وزير سنّي، أمّا الوزراء الاربعة الباقون فلن يزيدوا من حصّتيهما وإنّما سيكونون من حصص بقية الاطراف.
البعض يقول إنّ عقدة تمثيل فرنجية ترتبط بتضخّم حصص أفرقاء آخرين خصوصاً ضمن الحصة الوزارية المسيحية، وما تنطوي عليه من توزيعةٍ يفرضها التفاهم القائم بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» ويتوزّعان بموجبه الحقائب السيادية والاساسية في هذه الحصة، ولذلك قد لا يَستسيغان انتزاع حقيبة اساسية مثل «التربية» لمصلحة فرنجية على الرغم من أنّه يرفضها ويطالب بواحدة من حقائب «الصحة» و«الاتصالات» و«الأشغال العامة».
في البلد كلام كثير، أقلّه أنّ عقدة تمثيل فرنجية تؤخّر الولادة الحكومية، غير مقنِع، وأنّ هناك تفاصيل أخرى يَكمن فيها شيطان، بل شياطين قانون الستّين وسواهم، ربّما لا يروق لهم ان ينطلق عهد عون انطلاقتَه المأمولة.
وكثيرون يقولون أن لا مصلحة لرئيس الجمهورية في تأخّر ولادة الحكومة، بل يريدها اليوم قبل الغد، حتى ينطلق عهده بثبات وقوّة، علماً أنّ بري قال لعون والحريري خلال لقائهم في بعبدا على هامش عيد الاستقلال: «أُريد الحكومة البارحة»…
ويقول سياسيون ايضاً أن لا مصلحة للحريري في تأخّر تأليف الحكومة بعدما كان يستعجل الخطى للعودة الى الرئاسة الثالثة بعد طول غياب، ويرى هؤلاء أنّ من مصلحته وعون إكتساحَ كلّ العقبات والعُقد التي تعوق الولادة الحكومية.
ولكن في المقابل هناك من يقول إنّ بين القوى السياسية من لا يرى ضيراً في تأخّرِ تأليف الحكومة حتى ولو بلغَ الأمر بقاءَ البلاد في ظل رئيس مكلّف ورئيس حكومة تصريف الأعمال الى حين بلوغ موعد الانتخاب الجديد، فتُهدَر عندئذ فرصة إقرار القانون الانتخابي الجديد الذي تعهّد رئيس الجمهورية في خطاب القسَم بإقراره قبل موعد الانتخابات المقرّرة في أيار المقبل، وتُجرى الانتخابات في هذه الحال على أساس قانون الستين النافذ، الذي كانت العودة إليه في انتخابات 2009 انقلاباً على «اتفاق الطائف»، ثمّ حصل انقلاب على هذا القانون من الذين استحضروه
في مؤتمر الدوحة عام 2008، بحيث إنّ ما من أحد منهم إلّا وصبَّ جام لعناتِه عليه واعتبرَه علّة العلل، وها هو بعد انتخاب رئيس الجمهورية يردّد في سرّه «ما أحلى الرجوع إليه»، منقلباً على انقلابه عليه بعدما وجَد أنّ مصلحته السياسية والانتخابية كامنة فيه، لأنّ إقرار قانون يعتمد النظام النسبي هو بالنسبة إليه قفزة في المجهول ربّما تُعرّض مستقبله السياسي للخطر.
وفي البلد أيضاً كلام غير منقطع عن التمديد مجدّداً للمجلس النيابي، ولكن لا أبا يتبنّاه بعد، لأنّ الحديث عن إجراء الانتخابات على اساس قانون الستين ما يزال يَطغى عليه، حتى الآن.
أوَليس هذا ما يؤخّر ولادة الحكومة ويزيدها تعقيداً؟!
البعض يجيب: «عقدة التأليف ليست فرنجية وإنّما برنجية… والله يَعلم ما في الصدور»