Site icon IMLebanon

عملية التأليف تترافق مع هدير الطائرات الروسية

تتكوّن في المنطقة خيوط مراحل جديدة تحدّد الوظائف بدقّة تامّة لدول المشرق العربيّ، وتشكّل الخيوط بألوانها المتعدّدة نسيجًا يعتقد بأنّه سيكون فريدًا من نوعه، إذا ما تجسّدت الأقوال بالأفعال، وإشارة التجسيد موجّهة من الروس إلى الأميركيين، وكان لهم أن يشاركوا عددًا من الأميركيين الابتهاج بوصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة.

أوّل الغيث في تركيبة النسيج، ما أعلنه ترامب بصراحة مطلقة وشفافيّة نادرة في السياسة الأميركيّة، «إذا كان الأسد يقاتل الإرهاب فإنّنا معه»، وكأنّه بهذا القول يوجّه رسالة شديدة الوضوح بنقد لاذع، إلى الإدارة السابقة والأوروبيين، وإلى السعوديين والأتراك أيضًا، «لماذا تقاتلون الأسد في سوريا طالما أنّ المحتوى السياسيّ واحد في مواجهة الإرهاب التكفيريّ، ألا يجدر بكم أن تقفوا معه طالما أنّكم قلتم بأنّ هدفكم دحر الإرهاب التكفيريّ ونحره ومقاتلته أشدّ قتال؟»، لقد كشفت شفافية ترامب، مرامي الحرب الأميركيّة على الإرهاب، وقد وصفناها غير مرّة بأنّها استثمارية وليست جذوريّة، وكشف أكثر فأكثر، بأنّ الإدارة الأميركيّة خلال عهد أوباما لم تكن على تماه مع روسيا في الهدف والمبتغى، وليس من اتفاق في المعاني لترسيمها على الأرض، وترميمها بعد حين لحياة جديدة تنطلق من الحسم إلى إقرار التسوية السياسيّة.

مع هذه الرؤية تلاقى الرئيس السوريّ بشار الأسد والرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. لقد ردّ الأسد على كلام ترامب بكلام يماثله إيجابيّة وحرصًا على نحت قواسم مشتركة جامعة ما بين الولايات الأميركيّة المتحدة وسوريا، وتجيء بدورها من التلاقي الروسيّ- الأميركيّ في معنى الصياغة. «فترامب هو حليف طبيعيّ لسوريا طالما هو يحارب الإرهاب أو يدعم الحرب على الإرهاب». يكفي هذا الكلام بحدّ ذاته، لتفسير ما يحدث منذ أيّام تقول اوساط متابعة في هذا المدى الحاوي المكانيّ أو الجغرافيّ الحاوي للمضامين السياسيّة التأسيسيّة الجديدة. لا شيء أوضح وأفصح من الوقائع الميدانيّة المباشرة بالحجم والزخم، والمكثّفة منذ ايام ما بين أرياف حمص وحماه وإدلب وحلب، للاستنتاج المباشر بأنّ سوريا لا تسلك فقط مسيرة الحسم بل تسلك مرحلة التأسيس لذاتها وللمشرق من باب انعكاس نتيجة الانتخابات الأميركيّة، وقد أعكس لها عنوان: الزلزال الأميركيّ الجديد وبناء نظام مشرقيّ ومن ثمّ كونيّ جديد.

لقد فهم العالم كلّه بأنّ التنظيمات الإسلامويّة، وكما قال السفير الروسيّ في لبنان ألكسندر زاسبيكين، لها نظامها المستقلّ والمتوحّش، فلا تستوعب وجودَها في عالم مبنيّ على التنوّع الدينيّ والإتنيّ والعقيديّ، هي بحالتها الإسلامويّة لافظة للعالم كلّه ومستقلّة عنه، لأنها لا تراه في الأصل سوى على صورتها ومثالها، وهي استنزلت الله وجعلته بدوره على صورتها ومثالها، ومزقته من ضمن سياق أنظومة صدام الحضارات والتعبير لصموييل هانتنغتون، وأسقطت «جثته الممزّقة ودماءه المهراقة في انبثاثها المتوحّش في المشرق العربيّ، ولذلك لا خلاص إلاّ بقمعها وضربها وسحقها في داخل أوكارها. هكذا شاءت الإدارة الأميركية في الأصل للمشرق العربيّ أن يكون فكان، والسياق متسلسل ما بين الجمهوريين والديموقراطيين في أميركا من المرشحة السابقة للانتخابات هيلاري كلينتون إلى كوندوليزا رايس وجون بولتون ورامسفيد، من دون نسيان هنري كيسنجر الذي قدّم لكتاب هانتنغتون صدام الحضارت ظهور النظام الجديد the clash of civilizations and the remaking of new world order . كلّ تلك الأسماء كانوا أشخاصها بمحتوياتهم صدى لتلك الرؤية الناحتة لتنظيم القاعدة ومن ثمّ لمعظم التنظيمات التكفيريّة المتفرّعة منها.

ما يحدث في سوريا من هجوم معاكس من قبل الروس والجيش السوريّ وحزب الله، عبر تلك المنظومة المسلّحة إس300 وإس400 وصورايخ طوبوليف… يحمل في طياته هذا المعنى المدمّر للمحتوى المعاكس، لهذا المخلوق المسخ المفترس بشراسة لله ببشريته. لقد اختلطت الأوراق كلّها بصورة جذريّة، فالمعلومات الآتية من سوريا تشير إلى بداية الحسم وخلال أشهر قليلة لخواتيم سعيدة، فالإرهابيون الذين امتلكوا أوراق القوّة بفعل دعم الولايات الأميركية لهم مع الغرب الأوروبيّ والتمويل السعوديّ والتركيّ، بدأوا يفقدونها وهي تحترق بين أيديهم مع كلّ تلك التغييرات الجذريّة، فالسعوديون أمسوا تحت نير قانون «جاستا»، والأتراك وإن لا يزالون يناورون من مدينة باب الهوى، يدركون بأنّ الهامش بات أضيق، ورجب طيب أردوغان مدين للذي أنقذه بضرب الإرهاب الذي موّله وعدم المساس تاليًا بالسيادة السورية، ومكافحة قيام دولة كردية في مناطق كان الأميركيون مع إدارة أوباما يدعمون حصولها، على الرغم من أنّ ثمّة خشية من أن يتولى وزارة الخارجية الأميركية جون بولتون الداعم لقيام دولة كهذه ودولة إسلامية. السرعة الروسيّة في الاتجاه نحو الحسم الميدانيّ تسبق التحوّل الفعليّ من إدارة أميركيّة ستصبح سابقة إلى أدارة جديدة، فمضمون الحسم مشترك ما بين بوتين وترامب تقول الاوساط، ويفرض نفسه على الإدارة من خلال انبثاث عناصر التأثير التي ستقود حتمًا إلى التسليم بالدور الروسيّ في إدارة التسوية إلى جانب الإيرانيين والأتراك، وهو ليس على الإطلاق ولم يكن مشتركًا ما بين أوباما وبوتين حيث من الممكن أن يكون الرئيس الذي سيكون بعد ثلاثة اشهر سابقًا قادرًا على الحراك في الوقت الضائع.

أحد المحللين اعتبر بأنّ العملية الروسية بحجمها الكبير المنطلقة من طرطوس وحميميم والغائرة من الجوّ، ضربة معلّم قويّة لإدارة أميركيّة ستصير سابقة عرّاها الرئيس الجديد بمضمون واضح وكشف مثالبها، وأظهر مآربها، بعدما غرست مخالبها في جسد المشرق ونهشت بأنيابها مفاصله، ومزّقت كيانه، وبعثرت منطلقاته، وحاولت افتراس محتوياته، بتحويل التوازن إلى فوضى خلاّقة وهي بالفعل هدّامة.

بعد ثلاثة أشهر يتسلّم ترامب مقاليد الرئاسة وتتضّح معالم المشهد الجديد. سينقض من سوريا على وجه التحديد صيغة الحرب الباردة بين دولته وروسيا بحسب معظم الاستطلاعات، ليعكف وينكبّ على بناء الداخل الأميركيّ، مع الأخذ بعين الاعتبار ما ورد في بعض التحليلات من أنّ العالم الجديد متداخلة فيه معالم الثورة المعلوماتية مع إحياء المنطلقات القوميّة بصيغتها اليمينيّة كحالة بديلة عن أصوليات دينية ويسار متهالك لم يبق منه سوى القالب الجدليّ، وهو قالب طيب المذاق لمن ذاقه واستهلكه في التكوين السياسي هنا وثمّة.

ماذا عن الصيغة اللبنانيّة الجديدة؟ لا يزال الاشتباك السياسيّ والعقائديّ يرخي بثقله على عمليّة التأليف مصحوبًا بشراهة قلّ نظيرها وعدم شبع عند عدد من الأحزاب، وبخاصّة عند بعض الأقطاب السياسيين يشوب التأليف ويشوّهه البطر الأعمى في انكباب كثيرين على الاستيزار، ظنًّا بأنّ المرحلة الجديدة ستكون استمدادًا للمرحلة السابقة، ويأتي كلّ ذلك بإطار التصنيف المعتمد بين وزارة سياديّة وأخرى دسمة ومدهنة وأخرى لا ثقل فيها ولا قيمة لها، ويتبيّن من أنّ التشبّث عند بعض الوزراء لم يكن ولا مرة واحدة مكسبًا لهذه الطائفة أو تلك بقدر ما هو مكسب شخصيّ تتماهى فيه المصالح البرّاقة، على حساب فقراء لبنان والمرضى المنتظرين على أبواب المستشفيات والطلاّب غير القادرين على تسديد أقساط مدارسهم والمواطنين الذين يئنون من حجم فواتيرهم. وعلى هذا يسيل حبر وتحار العقول باستنتاجات ضيقة الآفاق وبسطحية مزرية تستلذّ لعبة الأسماء لقراءة المرحلة المقبلة وكأن بعض هذه الأسماء سيخرق الحجب بوجوده.

في العمق الاستراتيجيّ المتحرّك بالآفاق الداخليّة، تلك التفاصيل ستخبو «في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير»، فهدير الطائرات الروسيّة، وصوت رعد القدائف المنهمرة يكاد يسمع بقوّة في المعاني. لقد لفت أيضًا السفير الروسيّ زاسيبكين بأنّ سمة المرحلة المقبلة عنوانها التوازن الداخليّ. والتسوية التي أوصلت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة وتكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة يجب ان تستكمل في وقت سريع جدًّا بلا دلع ولا غنج وبلا شهوة تسلّط وشبق السلطة، كما أوضحت مصادر دبلوماسية استكملت قراءة زاسيبكين، فكمال التسوية يتجلّى على وجه التحديد باكتمال العناصر المشكّلة لقانون انتخابات عصريّ وعادل يكشف حرص اللبنانيين على إنتاج دولة فهيمة ومنتجة بكل ما للكلمة من معنى.

هذه التسوية ستستكمل على وقع المعارك في سوريا، إنها اللحظة اللبنانية المتماهية مع اللحظة السوريّة، والمتمحورة في فلك الزلزال الأميركيّ الجديد والإصرار الروسيّ على الحسم الجذوريّ في محطات واضحة. التعبير المفترض استنباطه واستخراجه بقوّة وإصرار، بأن وظيفة لبنان في المحطات الأخيرة للحرب الممدودة من سوريا إلى اليمن، تأمين الاستقرار في المراحل التسووية الجديدة، فالتسوية اللبنانية التي وصفت بالصغرى، هي المدخل لتسوية كبرى سيرى فيها الأتراك والسعوديون نفسهم مجبرين بفعل نتائج الميدان للجلوس الى الطاولة مع سوريا وإيران وروسيا وأميركا وأوروبا، لإرساء التسوية من منطق أنّ الرئيس بشار الأسد هو رئيس الجمهوريّة السوريّة، وبرعايته ستتجسد بالحروف الداخلية بنظام جديد ومرن يقوم على المشاركة بين اطياف المجتمع السوريّ، في تكوين سوريا ناهضة من بين الركام وناهدة نحو خلاصها.

لبنان سيكون في المرحلة العونيّة الجديدة إذا جازت التسمية المدخل، الحكومة الأولى برئاسة سعد الدين الحريري ستتالّف لتخطّ مع رئيس البلاد العماد ميشال عون المنطلقات وتزرع الأعمدة والتي عليها ستعلو العمارة اللبنانيّة، وعلى مثالها ستعلو العمارة السورية الجديدة بعد نهاية الحسم وهو الآن في بداياته…