في ظلّ تراكم الملفات المفتوحة على شتى الإحتمالات يصرّ اهل الحكم والحكومة على عبور المرحلة بأقل الخسائر الممكنة مع الحرص الشديد على حماية العلاقات بين أركانها بأيّ ثمن. وعلى هذه الأسس فُسِّرت كل الإجراءات التي أعقبت إبطال المجلس الدستوري قانون الضرائب كما في استعجال التشكيلات والمناقلات القضائية. فما هي الظروف التي تقود الى هذه القراءة؟
لم يكن مستغرَباً أن تستخدم السلطة السياسية كل قدراتها للرد على قرار المجلس الدستوري الذي سُجِّل انتصاراً للمعارضة في لبنان على أكثر من مستوى. ولا يمكن أيّ مسؤول أن يتجاهل ما أحدثه القرار من هزّات وتردّدات بين أركان السلطة.
ولذلك قرأت مراجع سياسية ودستورية ردّات الفعل الحكومية على أنها حالُ استنفار لم يقُد اليها أيُّ حدث أمني أو سياسي وحتى عسكري سابقاً. فلا يمكن أيُّ مراقب أن يتجاهل أنّ عمليةً في حجم «فجر الجرود» لم تجبر الحكومة على اجتماع إستثنائي لمعالجة الموقف ومواكبة العملية العسكرية. في وقت، خصّصت إجتماعات طارئة للرد على قرار المجلس الدستوري وسدّ الفجوات التي أحدثها في جسم السلطة الحكم.
وفي ظلّ المعمعة كان هناك مَن يحذّر – وله صوت مسموع ـ من أنّ الجميع في مركب واحد وما يصيب أحدهم لا يوفر الآخر على خلفية المثل القائل»أُكِلتُ يوم أُكل الثور الأبيض». ولذلك يعترف العارفون أنّ هذه النظرية دفعت الجميع الى إعادة النظر في سلوكياتهم فتوحّدت الجهود لمواجهة المستجدّات الطارئة. فالقرار أصاب السلطتين التشريعية والتننفيذية وسلّط الضوء على سلسلة من المخالفات الدستورية التي تجاوزها البعض على رغم معرفتهم بدقة الموقف وحراجته وحجم المخالفة المرتكبة التي لا يمكن أن تمرّ في الشكل الذي كانت عليه.
ومن هذه المنطلقات بالذات إستُخدِمَت مختلف الأدوات التي تمتلكها السلطة لتسوية العلاقات بين أهل الحكم أنفسهم ووقف مسلسل الإتهامات التي ابتدعها البعض في حق الآخر بعدما سقطت نظرية تبادل المسؤوليات، مِن قائل يومها إنّ قرار المجلس الدستوري أصاب السلطة التشريعية في الصميم وإنّ آلية العمل فيها يمكن أن تؤدّي الى إبطال عشرات القوانين التي اتُخذت منذ 2006 بنحو غير دستوري، الى قائل إنّ الحكومة عجزت عن تأمين التوازن المطلوب بين مقتضيات الوعد بالسلسلة على أبواب الإنتخابات النيابية الشاملة بعد تجاوز الحاجة الى الفرعية منها وتحديد مصادر تمويلها مع توزيعٍ منصفٍ وعادل للضرائب، فلا تقترب من العائلات التي تلامس في عيشها خطّ الفقر، أو تعيش تحت سقفه وتبعد الكأس المُرّة عن أصحاب الرساميل والمؤسسات الكبرى وأصحاب النفوذ، عدا عن عدم القدرة على سدّ أبواب الهدر بعدما اعترف أحدهم أنّ مواجهة الفساد قد تؤدّي الى تعطيل مصالح فئة كبيرة من اللبنانيين باتوا يشكلون «إقتصاداً موازيا» لـ «الإقتصاد الوطني» الشرعي.
ومن هذه الزاوية، بالذات بدأ التركيز على سبل مواجهة طلبات المجلس الدستوري الملزِمة التي تجاوزت مضمون الطعن الذي تقدّم به رئيس حزب الكتائب وزملاؤه النواب التسعة الآخرين من باب الربط والتزامن المطلوب بين قانون الضرائب وإقرار الموازنة العامة التي عجزوا عن إنجازها على مدى 12 عاماً من دون البتّ بقطع الحساب لصعوبة «الإبراء المستحيل».
ولتجاوز المرحلة الصعبة يقرأ المراقبون بلا عناء الإجراءات التي لجأت اليها السلطة على خلفية عدم القدرة على إنجاز قطع الحساب، فكان المخرَج سياسياً بالتزام المعنيّين إنجاز القطع في مهلة قصيرة تلي إقرار الموازنة. وهو مخرج سياسي لا علاقة له بالدستور والقوانين المرعية الإجراء وإنّ حمايته لا تتمّ سوى بالتفاهم السياسي الذي أطاح وما زال بالدستور أيّاً كانت مفاعيله.
وعلى هذه الأسس اضطرت الحكومة الى تحصين موقفها بضمّ مشروع القانون المعجّل الذي يرمي الى «الإجازة للحكومة تأخير تنفيذ القانون الرقم 46 والخاص برفع الحدّ الأدنى للأجور وإعطاء زيادة غلاء معيشة للموظفين والمتعاقدين والأجراء في الإدارات العامة والجامعة اللبنانية والبلديات والمؤسسات العامة غير الخاضعة لقانون العمل وتحويل رواتب الملاك الإداري العام وافراد الهيئة التعليمية في وزارة التربية والتعليم العالي والاسلاك العسكرية».
ويأتي هذا الإجراء رغم الوعد بأن «يحتفظ المستفيدون من القانون بحقوقهم المستحقة خلال فترة تأخير الدفع على ان تدفع بمفعول رجعي عند اعادة العمل به»، وذلك في محاولة لدق اسفين كبير بين المستفيدين مدنيين وعسكريين من القانون وبين المعارضة التي قدمت الطعن امام المجلس الدستوري وتحميلها المسؤولية إن «كررت فعلتها».
ولذلك لا يمكن وضع مشروع القانون المعجل هذا الذي اضيف الى سلسلة القوانين الأخرى إلا في هذه الخانة ليحتسب المعترضون، إن اقدموا مرة أخرى على الطعن، ردات الفعل هذه. فمن يستطيع ان يدفع كلفة السلسلة بمفعول رجعي لشهر او شهرين قادر على توفيرها الى حين اقرار الموازنة في مهلة شهر على الأكثر.
والى هذا الإجراء السياسي يمكن القارىء ان يفسر استعجال إصدار التشكيلات القضائية، فمجلس القضاء الأعلى الذي لم يجتمع لأي سبب كان حتى ساعة متقدمة من الليل كما حصل اول امس، وذلك بهدف إنهاء التشكيلات بالصيغة التي تم التفاهم بشأنها والتي تجاوزت ملاحظات المجلس نفسه قبل تحميلها لبعض السياسيين، ما هو إلّا إجراء يهدف الى الإسراع في محاسبة اعضاء المجلس الدستوري على قرارهم بفتح النقاش حول مصيره وهو الذي يمارس مهماته على رغم انتهاء مدة ولايته قبل عامين ونصف عام بحكم النص الذي يفرض البقاء في موقع المسؤولية الى ان يعين البديل منه.
وثمة من يقول، وحسب اوساط قضائية، ان احد اعضاء مجلس القضاء الأعلى الذي انتهت ولايته فجر اليوم سيكون رئيسا للمجلس الدستوري وفق الآلية التي يفرضها قانون تشكيله والتي سيبدأ التخطيط لها من اليوم لإستعجال البت بمصير هذا المجلس الذي ازعج الجميع.
وبناء على ما تقدم يبدو واضحا ان السلطة قررت الإنتقال الى مرحلة الهجوم بدلاً من الدفاع في خطة واضحة تجاوزت من خلالها مجمل الملاحظات والخلافات المتبادلة بين اركانها، وان الأيام المقبلة ستكشف الآليات التي ستعتمد للمواجهة المفتوحة في اكثر من اتجاه.