أثار ردّ حكومة تصريف الأعمال برئاسة دولة الرئيس نجيب ميقاتي للقوانين جدلاً سياسيًّا حادًّا واكبه جَدلٌ قانوني، على الرَّغمِ من وضوحِ النَّصِّ الدستوري الذي يولي صلاحيَةَ ردِّ القوانين قبل نشرها لرئيس الجمهوريَّة المادَّة 56 من الدستور والتي تجيز له رد القوانين العاديَّة خلال فترة شهر من ورودها إليه لإصدارها ونشرها، والتي تُحال حُكماً إلى مجلس الوزراء في ظل الشُّغور الرئاسي وفق ما تنص عليه المادَّة 57 من الدستور.
جاء بعضُّ المواقف كردَّات فِعلٍ مسيَّسة بغرض إظهار مزيد من الضَّغطِ للدفع قدماً بعمليَّةِ انتخاب رئيس للجُمهوريَّة، أما بعضُها الآخر فلكون فحوى النَّصوص التي تمَّ ردُّها تتماشى مع مَصالِحِ أصحاب المواقف أو الجهات التي يمثِّلونها. وتلطّى أصحابها خلف الحرص على عدم المساسِ بصلاحيًّات رئيس الجُمهوريَّة، معتبرين أن الأمر يمسُّ بصلاحيات الرئيس. ولم تخلُ بعض التَّصريحات من الغلو، بحيث وُصِفَ قرار الرد بأنه قرار سيئ وخطير، واستباحة لصلاحيات رئاسة الجمهوريَّة، ومنهم اعتبره إمعاناً في الاستفزاز والإستخفاف بتغييب رئيس الجمهوريّة، ومنهم من اعتبره استغلالاً للفراغ الرئاسي، ومنهم من اعتبره تعدٍّ على صلاحيات رئيس الجمهوريَّة الشاغر، ومنهم من اعتبره استغياب لطرف سياسي، ومنهم من اعتبره تجاوزاً لحد السُّلطة، ومنهم من اعتبره قلّة مسؤوليَّة من الحكومة، وتهرّباً من مسؤولياتها من مواجهة المشكلات. كل تلك المواقف ما هي إلَّا انعكاسات لحالة الهريان السياسي التي يُعاني منها لبنان، نتيجة عدم انتظام أداء السُّلطات الدستوريَّة، ولا سيَّما السُّلطتين التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة، نتيجة السِّياساتِ التعطيليَّة التي قامت على الابتزاز بغرض تحقيق المصالح الفئويَّة وتغليبِ الاعتبارات الشَّخصيَّة.
من الناحيةِ الفقهيَّة استند فريقٌ من منتقدي رد القوانين الثَّلاثة في موقفه المناهض للقرار إلى أن صلاحيَة رد القوانين هي صلاحية لصيقةُ بشخص رئيس الجمهوريَّة لا تجيَّر لمجلس الوزراء وفريقٌ ثانٍ أضاف أنها لصيقة به باعتباره مؤتمن على الدُّستور، وفريقٌ ثالثٌ اعترض على حصول الرَّد بعد إصدار القوانين بالموافقة عليها في مجلس الوزراء واعتبر في ذلك تراجعاً عن الإصدار، أمَّا الحقيقةُ الثابتةُ فتكمن في أن ردَّ الحُكومة للقوانين الثلاثة لم يأتِ من عبث، إنما جاءَ استجابةً لدعوات صادقةٍ من جِهاتٍ وطنيَّة وازنة وفي طليعتها بكركي ولمناشداتٍ شعبيَّة واسِعَة النِّطاق، تبتغي تفادي المزيد من الأزماتِ الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي قد يتسبَّب بها إصدار قوانين غير مُتوازِنَة في ظلِّ مَرحلةٍ اقتصاديَّةٍ ومعيشيَّةٍ حَرِجَةٍ يَمُرّ فيها لبنان واللبنانيون.
مما لا شكَّ فيه أن ردَّ القوانين الثَّلاثةِ من قبل مجلس الوزراء في ظلِّ شغور منصبِ رئيس الجمهوريَّة يُشكِّلُ سابقةً دستوريَّة، إلَّا أنها ليست السَّابقةُ الوحيدةُ التي نشهدها اليومَ في ظلِّ التَّخبُّط السياسي، ولكن أملتها الظُّروف الحسَّاسةُ التي يمرُّ فيها لبنان في ظِلِّ أزمةِ شغور رئاسي، وتبايُنِ حادٍّ في تفسير الكثيرِ من النُّصوص الدُّستوريَّة ولا سيَّما تفسير الموادِّ التي ترعى آليَّة انتخاب رئيس الجمهوريَّة، والتي تجعلُ من المجلس النيابي في ظِلِّ الشُّغور الرئاسي هيئة ناخبة لا هيئة تشريعيَّة.
إن الجدل السياسي والقانوني المثار حاليًّا لا يُردُّ إلى تباينُ المواقف من موجب ردِّ القوانين أو عدمه، إنما جاءَ نتاجَ تراكُماتٍ سياسيَّةٍ مُتعدِّدة الأوجه، تعزى بالإجمال إلى الوضع السياسي المُتخبط الذي يشهده لبنان نتيجة الانقسامات السياسيَّة الحادَّة، والتي تسبَّبت وتتسبَّبُ في خلافاتٍ سياسيَّة، كنا بغنى عنها لولا الشغور في سدَّة رئاسة الجمهوريَّ، والذي يكاد أن يصبح ظاهرة مألوفة لعدم وجود بوادر حلحلة للأزمة الرئاسيَّة في المدى المنظور، ولقصور المعنيين في لبنان بهذا الإستحقاق عن بلورة حلٍّ دستوري يصبُّ في المصلحة الوطنيَّة العليا والسَّير به من دون رعايةٍ خارجيَّة، ولانشغال القوى الدَّوليَّة والإقليميَّة المؤثِّرة في الوضع اللبناني بمشاغل سياسيَّة دوليَّة وإقليميَّة أكثر تعقيداً وإلحاحاً.
وبالعودةِ إلى روحيَّةِ النَّص الدستوري الذي يرعى صلاحيَة رئيس الجمهوريَّة في طلب رد القوانين نرى أنها تندرج ضمن الضَّوابط التي ترعى التَّوازنَ ما بين السُّلطتين التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة، وأنها جاءت مقيَّدة بإطلاع مجلس الوزراء مُسبقًا على الطَّلب باعتباره المرجع المناط به أعمال السُّلطة الإجرائيَّة والمسؤول عن السياسة العامَّة للدولة والمعني يوضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيميَّة… الخ، وهذا ما يؤكِّد على أنها صلاحية غير لصيقة بشخص رئيس الجمهوريَّة، وأن الغرضَ منها تمكين السُّلطة الإجرائية، من تَنبيه السُّلطةِ التَّشريعيَّةِ لتلافي أي شَطَطٍ تشريعي لا يراعي الصَّالح العام أو الظروف السَّائدة في المُجتمع، وهذا ما يُستشف من التأكيد عن عدم جواز رفض الطَّلب، وفي الوقت عينه حصرُ استعمالِهِ بمرَّة واحِدة.
وبناءً لما تقدَّم نرى أن ما أقدمت عليه الحكومة بردّ القوانين الثَّلاثة يُعتبرُ عملاً من الأعمال التي تندرجُ ضمن اختصاص السُّلطة الإجرائيَّة بغضَّ النَّظر عن المرجع الذي يُمارسُه، سواء رئيس الجمهوريَّة (إن كان موجوداً) أم مجلس الوزراء (في حال شغور منصب الرئيس)؛ وهو يتماشى مع المبدأ الدستوري القائل بـ «ضمان استمرارية السلطات الدستورية» وهو مبدأ ينطوي على قيمة دستورية عالية، كونه يضمن حسن انتظام السُلطات الدُّستوريَّة وضمان حسن سير أعمالها، لذا أوكل الدُّستور اللبناني صلاحيَّاتِ رئيس الجمهوريَّة إلى مجلس الوزراء في حالة شُغور المنصب، ومن بينها صلاحيَة إصدار القوانين وطلب نشرها، وإعادتها إلى مجلس النُّواب لإعادة النَّظر فيها وفي المقابل يبقى للأخير تعديلها أو الإصرار عليها وتصديقها مُجدَّداً بأغلبيَّة تزيد عن نصف عدد أعضائه.
وطالما أن هذه الصَّلاحيَّة مُتاحة على الدَّوام للأسباب التي نوّهنا عنها، واستُعمِلت ضمن المُهلةِ الدُّستوريَّة المُحدَّدة، فإن ممارستها تعتبرُ عملاً دستوريًّا ونافذاً بغضِّ النَّظر عما إذا كان مجلس الوزراء قد صدَّقه وعاد عن ذلك قبل نشره، طالما جاء الرَّدُّ ضمن المهلة القانونيَّة المجاز خلالها إعادة القانون لمجلس النُّواب. وهذا العمل يعتبرُ عملًا حُكوميًّا دستوريًّا بامتياز، وبالتالي يخرج عن إطار القرارات الحكوميَّة والوزاريَّة ذات الطَّابع الإداري التي يُقبلُ الطعن بها أمام مجلس شورى الدَّولة.
ومآلُ هذه القوانين يتوقَّف على ما سيقرِّرُهُ مجلس النُّواب على ضوء اطلاعه على الأسباب التي بيَّنتها السُّلطةُ الإجرائيَّة في ردِّها لكل قانون من هذه القوانين، فله أن يعدِّل في نص القانون أو يُصرّ عليه بإقراره مجدَّداً بغالبيَّة مطلقة. وهنا تصبح السُّلطة صاحبة الصلاحية في الرد، أي مجلس الوزراء، ملزمةً بإصدار القانون وطلب نشره، ويصبحُ نافذاً وموجباً للتَّطبيق بانتهاء المهلة المحدَّدة لنَّفاذه.
ويبدو أن مجلس الوزراء، في ظل حكومة تصريف الأعمال، هو المولج في تسيير أعمال السُّلطة التَّنفيذيَّة لحين انتخاب رئيس للجُمهوريَّة وتشكيل حَكومة جديدة، قد استشعر خللاً ما يتعارض مع الصَّالح العام وخاصَّة في ظِلِّ الظروف السَّائدة في لبنان، في كل من القوانين الثلاثة أي القانون المتعلِّق بالهيئة التَّعليميَّة في المدارس الخاصَّة وتنظيم موازناتها، والقانون الرَّامي إلى إعطاء مُساعدة ماليَّة لحساب صندوق التّعويضات لأفراد الهيئة التَّعليميّة في المدارس الخاصَّة، أما الثالث وهو القانون الذي يعنى بالإيجارات للأماكن غير السَّكنيَّة؛، فلا تثريب عليه إن مارس صَّلاحيَّة مناطة به استثنائيًّا لوجود شغور رئاسي تجيز له رد هذه القوانين، طالما كان يتوخى من ذلك المَصلحة العامَّة، بغرض دفع السُّلطة التَّشريعيَّة لإعادة النَّظر فيها مجدَّداً وتعديلها أو إقرارها وفقاً للأصول (بغالبيَّة مطلقة).
وبالعودةِ إلى القوانين التي رُدَّت من قبل مجلس الوزراء إلى المجلس النيابي موضوع الجدل القائم، هذه القوانين الثَّلاثة يتمحور كل منها حول مسألة في غايةِ الأهميَّة عدا عن كونها مُلِحَّة، ولكن إقرارها يستدعي مُعالجتها بتروٍ وحِكمَة، كي لا تزيد من الخلل القائم، أو التَّسبَّب بأزمات جديدة أو أكثر خطورة من الأزمات الراهنة. والمعالجة المنشودة تكون بإقرار نصوص تشريعيَّة تُحقِّقُ العدالة والتَّوازن بين جميع الأطراف المعنيَّة ولمدى طويل نسبيًّا.
وإن كان لا بدَّ لنا من إبداء رأي متواضع ومقتضب حول المواضيع ذات العلاقة، نرى أنه بالنِّسبة لرواتب وتعويضات العاملين في التعليم الخاص والصناديق الخاصَّة بها، ينبغي اعتماد معايير مجرَّدة توازن ما بين موازنات المدارس الخاصَّة، والتي ترتبطُ مواردها بالأقساط المدرسيَّة التي ينبغي أن تراعي قدرة ذوي التَّلامذة على دفع الأقساط المدرسيَّة، وصرف رواتب وتعويضات تضمن للمعلمين العاملين والمتقاعدين منهم الحد الأدنى من متطلبات العيش اللائق والكريم.
أما بالنسبة للقانون الخاص بتحرير عقود الإيجارات غير السَّكنيَّة والذي يبدو أنه بصيغته الراهنة لم يراعِ العدل والإنصاف، وقد يتسبَّبُ بأزمةٍ اقتصاديَّة ومعيشيّة، لذا ينبغي إعادة النَّظر به بحيث يضمن لطرفي العقد «المؤجر والمُستأجر» حقوقهما باعتماد آليَّة مَرِنةٍ تقوم على اعتمادِ مُهلة زمنيَّة مقبولة (لا تقل عن عشرة سنوات) لإنهاء بدلات الإيجار القديمة كتعويض عما دفعه من خلو عند انتقال المأجور إليه، وفي الوقت عينه تعديل بدلات الإيجار خلال هذه المدَّة المتبقية على نحو يراعي التَّفاوت في قيمة بدل الإيجار نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنيَّة. وبانتهاء المهلة المنوّه عنها يتحرَّر المأجور، ويصبح تأجيره مُجدًّدا متوقفٌ على إرادة المالك ووفق الأسس التي ترعى عقود الإيجار العاديَّة.
* عميد متقاعد