IMLebanon

أطفال التوحّد إن حكوا: “الإتيكيت” تؤذيني…

 

سياسة الدمج المدرسي للمصابين تُطلَق الشهر المقبل

 

أضاءت دراسة فرنسية حديثة على علاقة سببيّة ما على المستوى البيولوجي العصبي بين ارتفاع نسبة التلوّث من جهة وتَضاعُف حالات التوحّد من جهة أخرى. العوامل الوراثية، تقدّم الوالدَين في السن، مضاعفات الولادة ومياه الشرب تُضاف إلى قائمة الأسباب. منظمة الصحة العالمية تشير بدورها إلى إصابة طفل واحد من كل 100 طفل في العالم به. اليوم العالمي للتوحّد مرّ الشهر الماضي. وفي لبنان، إطلاق سياسة الدمج المدرسي للمصابين بالتعاون مع اليونيسف والاتحاد الأوروبي مرتقب الشهر المقبل. نسأل أكثر.

يقولون إن تربية طفل مصاب بالتوحّد مهمة صعبة، والكتابة عن الأمر أسهل بكثير. لكن الكثير من الكتابة، سَهُلَت أم صَعُبَت، مطلوب هنا بمناسبة أو بدونها. ازدياد الحالات حول العالم كما في لبنان يفاقم المخاوف ويجعل الإضاءة المستمرّة أكثر إلحاحاً. فكيف يصف المختصّون في لبنان تجربتهم مع الأطفال المصابين بالتوحّد- على مختلف الاضطرابات الناتجة عنه سلوكاً، تواصلاً وتفاعلاً اجتماعياً- وهل يكون الدمج أحد الحلول المتاحة؟

 

لا لـ»عنونة» الطفل

 

البداية مع الاختصاصية في علم النفس، زينة نون شكور، التي اعتبرت في اتصال مع «نداء الوطن»، بالحديث عن الدراسة الفرنسية، أن التلوّث قد يكون سبباً رئيسياً وراء ازدياد الحالات لكنه ليس الوحيد. فالأسباب كلّها كما العلاجات ما زالت مجهولة حتى الساعة رغم الدراسات المكثّفة. نحن هنا بصدد اضطراب عصبي نمائي يصيب الطفل فتظهر العوارض بعمر السنة أو السنة والنصف تقريباً، بحيث يتوقّف الطفل عن التواصل النظري والتفاعل مع الآخرين ويميل إلى الجلوس بمفرده. الحالة تستمرّ بالتطوّر وصولاً إلى الانزواء التام والانزعاج من الأصوات والضجيج، ما ينعكس ردود فعل بعضها عنيف: الجلوس أرضاً، رمي وتحطيم الأغراض، القيام بحركات متكرّرة كالرفرفة باليدين أو الدوران حول النفس والتمايل كمن يجلس على كرسي هزّاز.

 

لكن ما الذي يمكن للأهل فعله بإزاء حالات مماثلة؟ بحسب شكور، أول من يلجأ إليه الأهل عادة هو طبيب الأطفال أو طبيب العائلة. وعلى الأخير أن يقوم بتحويل الطفل إلى طبيب أعصاب أطفال (Neuropédiatre) وإخضاعه لتخطيط دماغي وسَمَعي. وفي حال تمّ التأكد من خلوّ التخطيطين من المشاكل، يتمّ تشخيص الحالة على أنها «توحّد». «برأيي الشخصي، حرام أن «نُعنوِن» الطفل بعمر صغير متوحّداً وكأننا نسبغ عليه «إيتيكيت» ترافقه مدى الحياة. الأهم هو العمل على معالجة الأعراض، كمساعدته على النطق من خلال معالج مختصّ، أو على تقوية عضلاته الجسدية بمساعدة معالج حَرَكي حسّي، أو ثنيه عن المشي على رؤوس أصابعه (وهي إحدى علامات التوحّد الشائعة أيضاً) بمؤازرة معالج فيزيائي»، كما تقول شكور. فالتدخّل العلاجي المبكر شرط لتطوّر حالة الولد إيجاباً وبشكل أسرع.

 

محاذير كثيرة

 

بعيداً من أنواع التوحّد التي تتراوح درجاتها بين الخفيفة والمتوسطة فالمتقدمة بحسب شدة الأعراض، تنصح شكور الأهل بإبعاد الطفل قدر المستطاع عن التلفزيون والكمبيوتر والهواتف الذكية وكافة الأجهزة الإلكترونية. وإذ لفتت إلى أن التوعية والتدخّل المبكر يساهمان في الحدّ من تفاقم الأعراض، حذّرت من كيفية التعاطي مع المصابين، كونهم «يسمعون الأصوات أحياناً أقوى مما نسمعها بكثير وتكون لديهم ردّات فعل مختلفة عنا. من هنا ضرورة الانتباه إلى طريقة التصرف والتعامل معهم، حتى بطريقة لمسهم، كي لا يشعروا بأن ثمة من يجتاح عالمهم الخاص».

 

لكن ماذا عن الدمج التعليمي والمجتمعي وهل يكون حلّاً مناسباً لإخراج المتوحّد من عزلته؟ «الحالات التي يمكن دمجها قليلة جداً. فأكثرية الأطفال المصابين لا يمكن دمجهم لأسباب كثيرة، منها سلوكية ومنها لِعَدم توافر برامج دمج أكاديمية خاصة وأخصائيين ذوي كفاءة لا سيما في لبنان. هذا إضافة إلى التكلفة العالية التي لا يمكن للأهل تكبّدها وعدم قدرة الطفل المصاب على التكيّف بالمحيط المنفتِح في المدارس العادية»، والكلام لشكور.

 

متوحّدون ناجحون

 

نبقى مع الدمج وهذه المرة مع مديرة «مركز الحياة للاحتياجات الخاصة» التابع لمدرسة الفرير ددّه، ميريلا قنّاع، التي أخبرتنا أن فكرة افتتاح المركز جاءت لتلبية الاحتياجات التربوية للأكثر فقراً، ومن بين الفقراء، هناك من يشتهر بذكائه. وقد أنشئ المركز في العام 2007 بدعم من رهبانية إخوة المدارس المسيحية وكان يتألف من صفّين فقط: الأول للتوحّد والثاني للتخلّف الذهني الخفيف والمتوسط. وتقول قنّاع: «راحت الحالات تزداد بشكل ملحوظ حتى وصل عدد صفوف التوحّد حالياً داخل المركز إلى سبعة، يضم كل منها ثمانية طلاب. لكن للأسف، فعدد الراغبين بالتسجيل يفوق بكثير قدرة المركز الاستيعابية».

 

عن طريقة التدريس تلفت قنّاع إلى اعتماد برنامج الدولة المناسب لعمر الأطفال المصابين بالتوحّد، كما الركون إلى الصُوَر وإلى جانبها الكلمة التي تشير إليها كي يتمكن الطالب من الربط. وتضيف: «عادة نختار الحالات الخفيفة إلى المتوسطة القابلة للدمج المدرسي والمجتمعي. منهم من تمكنّا من دمجهم في صفوف الموسيقى أو الرياضة أو اللغة العربية مثلاً. ومنهم من أظهروا تطوّراً ملحوظاً بحيث نجحوا في امتحانات الشهادة المتوسطة وانتقلوا إلى المرحلة الثانوية». إثنا عشر تلميذاً تمّ دمجهم كلياً حتى اليوم في مدرسة الفرير ويتابعون دروسهم مع الطلاب الآخرين. فكيف تجري عملية الدمج؟ «أولاً نقوم بتحضير الطلاب في المدرسة لقبول الآخر المختلف. أما الطفل المصاب بالتوحّد، فننقله بداية إلى الصف فارغاً كي يتأقلم مع المكان، ثم نعرّفه على معلّمته الجديدة فتبدأ بزيارته مع بعض الطلاب في المركز كي يعتاد عليهم أيضاً. بعدها يُنقل الطفل من المركز إلى المدرسة لينضم إلى رفاق صفّه الجديد في ظل تنسيق متواصل بين المركز والمدرسة»، تجيب قنّاع.

 

تكاتُف الجهود

 

أبرز ميزات المركز وجوده والمدرسة ضمن مؤسسة واحدة على عكس باقي المراكز التي تضطر إلى التعاقد مع مدارس بعيدة لدمج الطلاب المصابين فيها. وهذا يخفّف من كلفة التنقلات والتعليم ويجعل عملية التنسيق بين المركز والمدرسة أكثر نجاحاً. «المركز مجاني والفضل في المتابعة لدعم مدير المدرسة، الأستاذ جيلبير حلال، لنا هذه السنة. فحتى العام 2020 كانت وزارة الشؤون الاجتماعية تتكفل بالمصاريف المادية كاملة، لكن منذ ذلك الحين لم تسدّد أيّاً من مستحقات المركز. حتى أن قيمة ما كانت تسدّده أصبحت لا تتخطى الـ70 دولاراً سنوياً للطفل الواحد في حين أن التكلفة الفعلية تقارب الـ1500 دولار».

 

الإصابة بالتوحّد لا تعني نهائياً عدم القابلية للتعلّم والتطوّر. قد لا يتوصّل المصاب للكتابة والقراءة بشكل صحيح، لكن تعلّم أساسيات الحياة، كما تدبير أموره وتلبية احتياجاته الشخصية والحفاظ على نظافته وتأهيله لمهنة المستقبل، وارد تماماً. يبقى الأهم التحلّي بالثقة بالنفس وحبّها كما هي. تخبرنا قنّاع عن أطفال مصابين بالتوحّد برعوا في الحساب الذهني، أو في مادة التاريخ أو حتى في العزف على الآلات الموسيقية. أحدهم اخترع آلة صُنع popcorn وآخر مروحة. «الأهل هم السبب الرئيسي في معظم الأحيان لأنهم يخجلون من واقع أولادهم ولا يدافعون عنهم… أما المجتمع فخطيئته الجهل التام بخصوصيات هؤلاء الأطفال. بقدر ما يضع الأهل والمجتمع أياديهم بأيدي الفريق التربوي، بقدر ما يبرع الطفل».

 

الوزارة تتحرّك

 

للوقوف عند رأي وزارة التربية في ما خص الدمج التعليمي، كان لـ»نداء الوطن» حديث مع مديرة الإرشاد والتوجيه في الوزارة، هيلدا الخوري، التي أشارت إلى البدء بمشروع المدارس الدامجة في العام 2018 مع ثلاثين مدرسة رسمية، ليصل عدد المدارس حالياً إلى 110 (90 منها قبل الظهر و20 بعد الظهر). كما أن وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء سيُطلقان سياسة الدمج المدرسي الشهر المقبل بالتعاون مع اليونيسف والاتحاد الأوروبي، بحسب الخوري.

 

هل تستقبل هذه المدارس كافة الحالات؟ «المدارس الدامجة تستقبل من يعانون من احتياجات خاصة وصعوبات تعلّمية. أما بالنسبة للمصابين باضطراب التوحّد، فيتمّ اختيار الحالات المتوسطة حصراً، لعدم قدرة المدارس حتى الآن على استقبال تلك المتقدمة. رغم ذلك، تعمل الوزارة جدّياً على خطة تسمح باستقبال هذه الحالات وستُطلَق قريباً بعد إعلان سياسة الدمج. مع العلم أن بعض المدارس الخاصة تقوم بالتعاون مع بعض المؤسسات والمراكز التي تعنى بتعليم الكفايات الحياتية، باستقبال حالات التوحّد المتقدمة».

 

الدمج ثقافة

 

مراسيم وخطط إنجاح الدمج المدرسي وضُعت منذ سنوات لكن تطبيقها لم يبصر النور. تؤكّد الخوري أن عملية الدمج التي شرعت بها الوزارة في العام 2018 أحرزت تقدّماً ملحوظاً على عدة مستويات، لكن هناك حواجز تعيق التنفيذ على أرض الواقع. فالدمج يتطلب وجود اختصاصيين حسب كل حالة وهذا يتطلب بدوره دعماً مادياً وتوافر فريق عمل مختصّ. «حتى في مشروع الوزارة داخل القطاع الرسمي، وبالرغم من الدعم المادي، ما زلنا نجد صعوبة في استقطاب أخصائيين لأن ذوي الكفاءة باتوا يفضّلون العمل خارج لبنان»، كما تقول.

 

ما الحلّ إذاً؟ «الدمج ثقافة وليس مشروعاً. الوزارة بدأت بنشرها بالتعاون مع الشركاء. والأهم هو بناء مناهج دامجة وهذا ما يقوم المركز التربوي للبحوث والإنماء بالإعداد له حالياً بالتعاون مع المديرية العامة للتربية. كما نحتاج للتنسيق مع الجامعات لتحضير متخرّجين للاختصاصات التي تعمل في مجال الدمج. أما بالنسبة للطلاب المصابين، على كافة الوزارات والمؤسسات التنسيق في ما بينها لتأمين التأهيل والتعليم النوعي للجميع. فالدمج لا يُبنى إلا من خلال الشراكة بين الدولة والمجتمع»، كما تختم الخوري.