IMLebanon

«الخلايا الكارهة»: قصّة تخطيط خالد محمد لاغتيال شحرور

في ظلّ ظروف الفوضى العارمة السائدة في المنطقة، لا يمكن أيّ دولة أن تتوقّع كسبَ حربٍ كاملة على الإرهاب. يُمكن تحسينُ مواقع الدفاع في مواجهة الإرهابيّين وجعلُ خلاياهم في أزمةٍ وحالِ تشَتُّت. هذا التوصيف يَنطبق على الوضع في لبنان لجهةِ معركة جيشِه وأجهزته الأمنيّة ضدّ الإرهاب ومشاريعه في البلد.

لعلّ أخطرَ «قوّة» يملكها الإرهاب، تكمن في أنّه مناخ فيروسي مُعدٍ، وعليه فإنّ خلاياه الضاربة ليست دائماً تنظيمية ومرتبطة بآليّة أوامر تراتبية، بل تكون أحياناً فردية وعشوائية. والمنتسِبون إلى الإرهاب بصِفتهم منقادين من مناخه العقائدي المُعدي والدعائي، وليس من مُشغّل يُحرّكهم أو مِن تنظيم بعينه، هم بالألوف حول العالم وبالمئات داخل لبنان.

يُطلق أحد المسؤولين الأمنيين الكبار في لبنان على هذا النوع من «البيئة الإرهابية» تسمية «الخلايا الكارهة». وهو بحقّ توصيف مبتكر، ويمكن إضافته إلى تسميات اصطلاحية أخرى، باتت معتمدة لتصنيف الحالات الإرهابية الضاربة مثل «الخلايا النائمة» و«الخلايا الانغماسية» و»الخلايا العائلية». وهذه الأخيرة هي عبارة عن رَجل وامرأة ليس بالضرورة وجود معرفة مسبَقة بينهما، يكلّفان بموجب «فتوى شرعية» (دينية) اللقاء في بلد أجنبي وعَقد قرانِهما بهدف تعاونِهما لتنفيذ مهمّة إرهابية.

أمّا تعريف «الخلايا الكارهة»، فإنّ المقصود به الدلالة إلى شخص يتأثر بالحملات التي يَشنّها «الإعلام الارهابي» على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والمنشورات، والتي «تُكفّر» أشخاصاً أو مؤسسات دينية أو رسمية أو سياحية. ونتيجة تأثّرِه بهذه التعبئة الإعلامية يكلّف نفسَه ضربَ أحدِها.

«خلايا كارهة» في لبنان

أخيراً، بدأت تتكشّف داخل لبنان حالاتٌ إرهابية فردية تُعتبَر ترجمةً عملية لهذا النوع من «الخلايا الكارهة». وأوضَحُ مثال عليها يتمثّل بواقعةٍ اكتُشفت قبل نحو ثلاثة أسابيع، عندما أوقفَت مخابرات الجيش اللبناني أحدَ النازحين السوريين في النبطية ويدعى خالد محمد متلبِّساً بنيّة التخطيط لاغتيال رئيس فرع مخابرات الجيش في الجنوب العميد علي شحرور (الذي سيتقاعد من الخدمة نهاية هذا الشهر ويحلّ مكانه العميد خضر حمود).

وفي التفاصيل أنّ خالد محمد قدمَ إلى لبنان ضمن موجات النزوح السوري بصفته نازحاً هارباً من مدينة الحسكة، وعملَ في ورَش للبناء في منطقة النبطية. ولوحِظ أنّه تَقصَّد التنقّل مِن ورشةٍ إلى أخرى حتى استقرَّ أخيراً في ورشة بناء منزل يقع في إحدى قرى منطقة النبطية، وبالقربِ منها ورشةٌ أخرى لمنزل العميد شحرور.

ولاحظ صاحب ورشة البناء في المنزل الأوّل، تصرّفات مريبة لخالد منذ قدمَ ليعمل في ورشته، وأبرزُها إشارات توحي بأنّه يراقب منزل شحرور. وبعد تعاظمِ ارتيابه من تصرّفاته، أبلغَ ملاحظاته إلى مخابرات الجيش. ونتيجة متابعة الأخيرة لتحرّكاته، تراكمَت معلومات إضافية في صددِه، منها استفسارُه من إحدى نساء الحي عن موكب شحرور لدى مروره في المنطقة، إلى طلباته المتكرّرة مِن مراقب الورشة التي يعمل فيها أن يسمحَ له بالمبيت في الورشة الخاصة بمنزل شحرور. هذا بالإضافة إلى ملاحظات أخرى جمعتها مخابرات الجيش عنه، كان أبرزَها نيتُه رميَ قنبلةٍ يَدوية على موكب شحرور، وهو أمرٌ اعترفَ به لدى التحقيق معه خلال الفترة التي سَبقت نَقله إلى المحكمة العسكرية تمهيداً لمحاكمته.

إعترافات محمد

خلال التحقيق معه، تكوّنَت لدى المخابرات فكرتان محتملتان عن حالته، الأولى شَكّكت في أنّ خالد مراوغ ويخفي انتماءَه إلى «جبهة النصرة» أو «داعش» أو جماعة إرهابية أخرى، خصوصاً أنّها وَجدت على هاتفِه الجوّال أرقاماً لاتّصالاتٍ أجراها مع أشخاص مشبوهين. أمّا الفكرة الثانية التي استقرّ الرأي عليها الآن، فتُفيد باحتمال مرَجَّح وهو أنّ خالد ينتمي عقائدياً إلى المناخ «السَلفي الجهادي»، وأنّ نيّتَه اغتيالَ شحرور ليست على صِلة بتكليف تنظيم إرهابي محَدّد، بل إنّ خالد تأثّرَ بحملات إعلامية شَنَّها الشيخ أحمد الأسير ومواقعُ إلكترونية وبياناتٌ وُزِّعت في مخيّم عين الحلوة، تُهاجم رئيسَ المخابرات في الجنوب بالاسم وتُصَنّفه بأنّه معادٍ ويَعمل لمصلحة قوى يوجد بينها وبين الإرهابيين حربٌ لا هوادة فيها.

إضافةً إلى غيظٍ تراكمَ لديه من جرّاء شيوع أخبارٍ في وسطه بين النازحين السوريين والفلسطينيين عن إنجازات شحرور في مجال تفكيك غير شبكةٍ إرهابية في صيدا. وتمّ تصنيف هذا النوع من الحالات الإرهابية بأنّها تنتمي لما يمكن تسميتُه «الخلايا الكارهة»، بمعنى أنّ أعضاءَها يكنّون، نتيجة تأثّرِهم بحملات التعبئة الإعلامية الإرهابية، كرهاً شديداً لرموز معيّنة داخلَ الجيش، ولمراكز معينة رسمية وغير رسمية. وهؤلاء يَتبرّعون مِن تلقاءِ أنفسِهم بمهمّات يحدّدونها كأهدافٍ إرهابية لهم، ثمّ يبدأون بالتخطيط لضربِها عبرَ مراقبتها وشراء الأسلحة البسيطة واللازمة لاستهدافها.

وواضحٌ في حالة خالد أنّه حَدَّد شحرور هدفاً، ثمّ بدأ يستغلّ مهنتَه كعامل بناء للاقتراب من ورشة بناء منزله، وحاولَ بالتالي النومَ في الورشة ليصبحَ أقربَ إلى هدفه، كما أنّه استغلّ تعرّفَه إلى أهالٍ يقيمون في محيط ورشة منزل شحرور للاستفسار منهم عن تحرّكاته وجمعِ معلومات عن تنقّلاته ومواصفات موكبِه ومتى يزور الورشة.

وتُسَلّط الواقعة الآنفةُ الضوءَ على إشكالات جديدة مرتبطة بتطوّرات مستجدّة طرَأت على ملفّ الخطر الإرهابي في لبنان:

تتّصل الإشكالية الأولى بحقيقة أنّ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي التابعة لـ»جبهة النصرة» و»داعش» وغيرهما، تُعتبَر مرجعيةً غيرَ مباشرة لإصدار «أمر عمليات» لـ»الخلايا الكارهة» التي لا يمكن غالباً تحديد أعضائها. فهؤلاء هم أشخاص لا سِجلّات أمنيّة لهم، كما أنّ نشاطهم فرديّ وليس مرتبطاً بمُشَغّلين إرهابيّين يَخضعون لمتابعة أمنية.

وكتطبيق عمليّ لدلالات هذا الخطر، يمكن مثلاً من خلال درسِ صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية ومنشورات للجماعات الإرهابية، ملاحظة مدى تركيزها على ضرورة خوض «عمليات ثأر» ضدّ الجيش اللبناني ومفاصِله الأساسية. وهذه دعوةٌ تأتي كرَدّ فعلٍ على نجاح الجيش ومخابراته والأجهزة الأمنية في مهمّة قمعِ الإرهاب في لبنان وتفكيك خلاياه وشبكته التنظيمية.

– الإشكالية الثانية تتعلق بأنّ «الخلايا الكارهة» تعيش في بحرٍ من النازحين السوريين في لبنان ووسط أعدادٍ وفيرة من النازحين الفلسطينيين من سوريا. وهؤلاء «ضحايا» مناخ عام يوجد للأفكار «السَلفية الجهادية (الإرهابية)» فيه جاذبية كبيرة.

ويفيد تقرير أمنيّ أنّ كلّاً من «داعش» و»النصرة» مَعنيّان بإيجاد وسائل إرهابية جديدة تعوّضهما خسارةَ بنيتهما التنظيمية في لبنان، وذلك عن طريق اتّباع أساليب عمل ابتداعية هدفُها إرغام الجيش على عدمِ المضيّ قدُماً في محاربتهما والانتقال من مربّع الهجوم الاستباقي إلى مربّع الدفاع عن النفس. ومِن هذه الأساليب مثلاً رصدُ «جبهة النصرة» مبلغَ 150 ألف دولار لمَن يَغتال قائدَ الجيش العماد جان قهوجي، والمبلغ نفسه لاغتيال رئيس مجلس النواب نبيه برّي.

ويلاحَظ أنّ أسلوب توَسّل الإغراء المالي أو «المكافأة الماليّة» لتحقيق هدف تعجَز عنه الخلايا الإرهابية الكلاسيكية التي يقودها مشَغّلون مركزيّون، تزامنَ مع حملةٍ إعلامية مكمّلة له، تمتاز بأنّها ذاتُ طابعٍ تعبَوي تحريضي، وتتركّز ساحتُها على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وغيرها، وكلّها تتمحور حول العناوين الآتية: تكفير قيادة الجيش ووصفُها بـ»الصليبية» واعتبارُها عدوّاً خطِراً يجب على كلّ قادرٍ قتالُه، واتّهامها بانتماءات محدّدة لها دلالاتٌ عقائدية داخلَ المناخ العام السَلفي الإرهابي.

والواقع أنّ تجنيدَ خالد محمد نفسَه لاغتيال شحرور حصَل ضمن هذا السياق من العمل الإرهابيّ المستجد الذي تتوسّله الجماعات الإرهابية، والمتّسِم بأنّه «غيرُ مباشَر» و»يعتمد على تسييل الدعاية المعنوية التحريضية، بحيث تنتج تنفيذاً لمهمّات إرهابية مادية؛ والأشخاص الذين ينفّذونها لا صلات مباشَرة لهم بمشَغّلين إرهابيين مركزيّين، لكنّ الإعلام الإرهابي نجَح في إخضاعهم لنوعٍ مِن غسيل العقل».