IMLebanon

بعد «بيان عوكر»: اللبنانيون يضربون الأخماس بالأسداس

 

 

منذ صدوره الخميس الماضي غداة «لقاء عوكر»، ما زال بيان سفراء «الخماسية» مَدار جدل في انتظار معرفة المتغيرات المرتقبة ومعها «المفاجآت» إن كانت واردة. وذلك نظراً إلى ما حمله من «عبارات مفتاحية» أوحت بوجود تطورات يمكن ان تؤدي الى استعجال تنفيذ المهمة التي انتدبوا أنفسهم من أجلها لتقصير مهلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها. ولذلك ما زال اللبنانيون يضربون «أخماساً بأسداس» سعياً الى فهم الجديد المحتمل. وعليه، ما هي المؤشرات الى ذلك؟

منذ صدور البيان الأخير لسفراء الخماسية العربية والدولية، ارتفع منسوب الارتياح لدى معظم اللبنانيين نظراً الى ما حمله من إشارات حدّدت مهلاً لانتخاب الرئيس، وُصفت بأنها «إيجابية» في مرحلة فقد فيها الأمل من اي مبادرة يمكن ان تدفع اللبنانيين الى الاسراع في تنفيذ الآلية المؤدية الى انتخاب الرئيس على خلفية ما أشار إليه البيان لجهة أنه «لا يمكن لبنان الانتظار شهراً آخر، بل يحتاج ويستحق رئيساً يوحّد البلد ويعطي الأولوية لرفاهية مواطنيه ويشكل تحالفاً واسعاً وشاملاً في سبيل استعادة الاستقرار السياسي وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية». ولما ربطت ذلك بضرورة انتخاب رئيس يضمن «وجود لبنان بفعالية في موقعه على طاولة المناقشات الإقليمية، وكذلك لإبرام اتفاق ديبلوماسي مستقبلي في شأن حدود لبنان الجنوبية». اعتقدوا انّ الظروف الاقليمية التي لم يستوعبوها بعد قد تساهم في تجاوز كثير من المناكفات الداخلية التي أدت الى إطالة فترة الفراغ الرئاسي.

ولكن، ولما تناولت الخماسية الآلية المقترحة للعبور بهذا الاستحقاق الى نهاياته الدستورية ومدى استعداد اعضائها «للمشاركة في جهد متصل لتحقيق هذه النتيجة»، وأن بعضها «مستعد لإنجاز ذلك بحلول نهاية شهر أيار 2024»، تَلمّس المراقبون وجود تفاهم يؤدي الى الاسراع في الخطوات التي يمكن ان تنجز ما هو مطلوب في أقل من اسبوعين. وعندها بدأت موجة التشكيك بوجود ما يؤدي الى إتمامها من ضمن هذه المهلة المحدودة في ظروف اقليمية ودولية معقدة أدّت الى تشابك غير مسبوق بين ما يجري في الداخل وما تعيشه المنطقة من تطورات رافقت الهجوم على رفح بعد فشل كل المحاولات الجارية الى ترتيب وقفٍ ثابت لإطلاق النار في قطاع غزة لتنسحب مفاعيله على الجنوب اللبناني. وهو المعبر الاجباري المؤدي الى الترتيبات الخاصة بتثبيت الحدود الجنوبية وانتخاب الرئيس وسط سباق محموم بين الخيارات السياسية والديبلوماسية من جهة والخيارات العسكرية من جهة أخرى على مختلف الجبهات المفتوحة.

ولمّا لم تقف الامور عند هذه المؤشرات التي رفعت منسوب الشك في كل ما يسمعه اللبنانيون، بدأ البحث في الآلية المقترحة من جانب الخماسية لفك اللغز العالق بين سعي الرئيس نبيه بري الى حوار يؤدي الى تحديد جلسة انتخاب الرئيس بما فيها الدورات المتتالية التي تعقبها فوجدوا عقدة اخرى. فاللجنة لم تتبنّ نظرية بري في شكلها ومضمونها لا بل ربطتها بمواقف نسبت الى ما تضمنته مبادرة كتلة «الاعتدال الوطني» بدعوتها الى «مشاورات محدودة النطاق والمدة بين الكتل السياسية لإنهاء الجمود السياسي الحالي»، وهي العبارة التي أدت إلى «اصطدام» هذه المبادرة ببري الذي أصرّ على صلاحيته كرئيس لمجلس النواب بالدعوة الى حوار او تشاور وترؤسه وإدارته وهو ما أدّى الى نَعيها.

 

ولم تقف القراءات لبيان الخماسية عند هذه الملاحظة، فاستنسَخت «خطوة صغيرة» من مبادرة النائب غسان سكاف عندما قالت انّ هذه المشاورات «يجب أن تهدف فقط إلى تحديد مرشّح متّفَق عليه على نطاق واسع، أو قائمة قصيرة من المرشحين للرئاسة»، وهو ما أثبتَ انّ سكاف لم يكن يتحرك بدافع شخصي فقط إنما كان على تنسيق مع سفراء الخماسية عندما قال بـ«لائحة محدودة» من المرشحين كان يعود إليهم في اكثر من محطة رافقت التعديلات الى أدخلها على مجموعة مبادراته، التي تبيّن انها لا تختلف عن تحرك كتلة «الإعتدال الوطني» بمقدار ما كانت مُتمايزة عمّا أراده «الثنائي الشيعي» وبري تحديداً.

وانطلاقاً مما تقدّم، يُصرّ العارفون بكثير من خفايا الامور على انّ هذه الملاحظات مهمة جداً، وهي تؤشر إلى ان ما جاء به البيان من أفكار متضاربة لم يسمح بوجود ما يضمن تنفيذ خريطة الطريق المؤدية الى انهاء فترة خلو سدة الرئاسة، لأنّ فيها كثيراً مما لا يمكن التثبّت من حصوله، لا بل ان بعضها جَدّد النيران المتبادلة بين الطرفين وتحديدا بين اولئك الذين يتقدمهم «الثنائي الشيعي» في إصراره على طاولة الحوار التي تؤدي الى التفاهم على مرشحه، و»القوى السيادية» التي تكون المعارضة النيابية التي حالت دون التوافق على اقتراحه بالحوار في شكله ومضمونه وآليته، بدليل تَمسّكها بمرشحها الذي أدى التقاطع عليه الى ما لا يؤدي الى توفير الاكثرية النيابية التي تضمن انتخاب الرئيس.

وبناء على هذه المعادلات المتكافئة بسلبيتها، فإنّ ما زاد في الغموض حول ما يمكن تحقيقه من انفراجات أدى الى إلقاء الضوء على مواقف الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط امام الجالية اللبنانية في قطر، عندما نوّه بجهود الرئيس نبيه بري من أجل الفصل بين ما يجري في قطاع غزة والجنوب من جهة والاستحقاق الرئاسي من جهة اخرى، على رغم من معرفته بأنّ مثل هذه المحاولة لا تقف تردداتها عند نتائجها السياسية والدستورية البحتة، لا بل فهي المؤشر الأوّلي المؤدي الى الفصل بين توأمي الثنائي ليتحول من «ثنائي شيعي» الى «ثنائي وطني» يمهّد الى التغيير المؤدي الى تأمين الأكثرية التي تؤمن النصاب القانوني لانتخاب الرئيس أيّاً كانت هويته السياسية.

ولا تقف هذه المعادلة الجديدة عند التشكيك بقدرة «الثنائي الشيعي» على التماسك، ولكنها – في نظر أحد سفراء الخماسية البارزين – تُحيي مؤشراً سابقاً ليس قديماً، فهو يحيي التجربة التي ولّدتها «التسوية السياسية» التي أنتجت استحقاق العام 2016، والتي انتهت بانتخاب الرئيس العماد ميشال عون، ولم تكتمل ميثاقيتها لولا الفصل الذي كان قائماً بين «حزب الله» المؤيّد له وحركة «أمل» التي لم توفّر خطوة ممكنة تحول دون انتخابه من دون جدوى. ويضيف هذا السفير انّ اي مرشح يمكن انتخابه في ساحة النجمة قد لا يصل الى قصر بعبدا إن لم يحظ بنسبة معقولة من اصوات النواب الشيعة الـ27. والاخطر ان تمكّن من الانتقال إليه من دونها، فإنه لن يستطيع ان يحكم وحتى لن يكون قادراً على تشكيل حكومته الاولى.

عند هذه المؤشرات تلتقي مراجع سياسية وحزبية عليمة، على أنّ ما قاد إليه بيان «لقاء عوكر» بعد اسبوع على التعمق في ما جاء به من أفكار واقتراحات، يعكس حالاً من التخبّط قبل ان تأتي الأنباء من طهران بسقوط مروحية الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان ورفاقهما في جبال تبريز. وهو ما زاد من ارتباك اللبنانيين الذين بدأوا بضرب الأخماس بالأسداس لفهم ما يُدبّر ويُخَطط لهم وللبنان بلا اي نتيجة والى اجل غير مسمّى.