صدق بعض الجوانب من السيناريوهات التي تحدثت عن نَفَس جديد عادت به السفيرة الاميركية ليزا جونسون من واشنطن من اجل إحياء الخطوات المؤدية الى تقصير مهلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها في موازاة مجموعة من المؤشرات الدالّة الى قرب استعادة لبنان موقعه بين دول المنطقة والعالم، في ظل التحضيرات الجارية لسلة من التفاهمات الاقليمية والدولية التي اقتربت من ان تتحول الى وقائع. وهو ما يستدعي تزخيم الجهود لإنهاء حال المراوحة وإكمال عقد المؤسسات الدستورية في البلاد، لا سيما منها تلك المتصلة بالسلطة الاجرائية. فمسلسل الفشل على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية في مختلف المستويات قد بلغ الذروة ولم يعد هناك بد من أن يستعيد لبنان كل مؤسساته الدستورية وترميم ما اهتزّ منها واستعادة الأدوار التي افتقدها البعض منها.
عند هذه العناوين الشاملة توقفت القراءة المعمقة لبيان الخماسية الذي صدر عنها في أعقاب اجتماعها الاول من نوعه في مقر السفارة الاميركية في بيروت، عند المفاجأة التي تسبّب بها. فقد اعتقد البعض انّ الاجتماع لم يكن مختلفا عن سلسلة الاجتماعات السابقة قبل ان يأتي البيان بما جاء به من جديد نتيجة عودتهم الى مضمون لقاءاتها مع القيادات اللبنانية قبل عيد الفطر وبعده، لا سيما تلك المعنية بانتخاب الرئيس، والتي واكبتها بزيارات تقييمية الى رئيس مجلس النواب نبيه بري وكتلة نواب الإعتدال الوطني التي أطلقت مبادرة عُدّت على هامش تلك التي أطلقها بري. ولكن ما ثبت انّ الكتلة تجاوزت في اقتراحاتها بعض الخطوات من تلك الخاصة ببري. وبعدما اعتبرتها شكلية اعتبرها بري جوهرية تتصل بمهامه كرئيس للمجلس، خصوصاً بما يتصل بآلية الدعوة اليها ومن يترأسها وكيف تُدار أعمالها، كما بالنسبة الى التفرقة بين ما سُمّي طاولة «حوار» جامعة للكل او «تشاوراً» بطريقة تتحاشى تشكيل هيئة سياسية ووطنية لم يتناولها الدستور في أيّ بند من بنوده، لا تلك التي تتصل بانتخاب الرئيس ولا بأي ملف آخر.
وقبل البَت بشكل البيان ومضمونه الذي أصدرته السفارة الاميركية في اليوم التالي للقاء، والذي أنهى جدلاً امتدّ لساعات حول لقاء قيل انه لم يصور ولم يصدر بياناً، لا بد من لفت النظر الى ما اراده المجتمعون عندما أصرّوا على بيان رسمي يصدر عنهم يؤكد سلسلة النقاط الجامعة فيما بينهم لئلّا يتركون الساحة مفتوحة امام مجموعة من التسريبات الخاطئة وبناء المواقف منها، بما فيها المؤكد وغير المؤكد، والتي زرعت في الفترة الاخيرة الشكوك بين اعضاء الخماسية وصولاً الى اسئلة تبودلت فيما بينهم حول هوية من سرّب بعض الوقائع من هذه اللقاءات ومن كان مسؤولاً عن دَس بعض الحوارات الصحيحة التي جمعت في رواية الى جانب أخرى «غير دقيقة»، لئلّا يُقال انها «كاذبة ومفبركة»، وقد حفلت بها بعض السيناريوهات المتداولة التي أعدّت في مطابخ نجحت في تحوير مواقف البعض والاساءة الى عدد منهم.
وبعد الإشارة الى هذه الملاحظات، توقفت مراجع متابعة أمام نص البيان فرغبت بتناول مضمونه قبل توقيته وشكله، ولفتت الى اهمية بعض العبارات المفتاحية التي استخدمت فيه انطلاقاً مما يؤكّد ان اللجنة استندت في قراءتها للموقف وما يمكن اتخاذه من خطوات لِحضّ اللبنانيين على إتمام الخطوة الدستورية الى مضمون اللقاءات التي حفلت بها جولتهم مجتمعين على الأقطاب السياسية، واعتبرتها مواقف نهائية لا يمكن التشكيك بها طالما انها جرت في مواجهة مباشرة «من الفم إلى الاذن» بين السفراء واصحابها المعنيين بالاستحقاق في غياب الوسطاء والموفدين، فأصَرّت على اعتمادها مواقف نهائية وثابتة دفعت بالمجموعة الى التعبير عن استعدادها «للمشاركة في جهد متصل لتحقيق النتيجة المتوخّاة من جهدها، وأن بعضها مستعد لإنجاز ذلك بحلول نهاية شهر أيار 2024».
ولفتت هذه المراجع الى انّ الاشارة الى هذه المهلة تَمّ التداول بها على أنها ضرورية ليكون «لبنان الدولة» حاضرا بين نظرائه الدول في المنطقة المرشحين للمشاركة في المفاوضات المقبلة المتوقعة بعد «اليوم التالي» لإنهاء الحرب. فكل المفاوضات الجارية على اعلى المستويات الدولية والاقليمية في العواصم المعنية من واشنطن وباريس الى الرياض والقاهرة والدوحة وتل أبيب، بما فيها مسقط بالانابة عن طهران، قد بلغت مرحلة متقدمة لرسم الأطر السياسية التي تشكل الغطاء الضامن لأي اتفاق لوقف النار وضمان ديمومته بطريقة تضمن الانتقال الى مرحلة السلام المفقود حتى اللحظة، واستكمال الخطط الموضوعة للتطبيع بين إسرائيل والدول الخليجية استكمالاً للاتفاقيات الابراهيمية والتي باتت مستحيلة ما لم تقدم اسرائيل على الاعتراف بـ»حل الدولتين» وحق الفلسطينيين في تقرير المصير على الاراضي الفلسطينية التي ضَمنتها المواقف الاميركية، وحرّمت على اسرائيل اعادة احتلالها في الضفة وقطاع غزة.
وإلى هذه الملاحظات فقد رأت انّ المهل التي تحدث عنها بيان اللجنة الخماسية وربطها بنهاية أيار الجاري مَردّها إلى المراحل التي تستدعيها المفاوضات الجارية للتفاهم بطريقة تُنهي العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة والضفة وجنوب لبنان، وهو ما تلاقت في شأنه مع بعض البنود التي تضمنها البيان الختامي لقمة البحرين، والذي تَزامنَ صدوره والبيان الخماسي في خطوة تدلّ الى ان التنسيق الأميركي مع مجموعة دول الخليج قد يكون أكثر ثباتاً من المفاوضات المتعددة والموسمية غير الثابتة التي قادتها المبادرات الفرنسية والقطرية والمصرية بمعزل عن ايّ اعتبار يقول انّ واشنطن قد «اختزلتها جميعها»، لكنها هي في النتيجة ومن خلال موقعها المتميّز في ممارسة الضغوط على اسرائيل، ستكون الضامن الاول لأيّ تفاهم اقليمي ودولي وحتى اللبناني الداخلي. وهو ما أسقط المبادرات الأخرى في عثرات أدّت الى فرملة ما قالت به من خطوات قبل ان يجف حبر بعضها في انتظار الثابت والنهائي من التفاهمات المقبلة.
ولا تستخف المراجع باللهجة الصارمة التي اعتمدها البيان لجهة الفصل بين الاستحقاق الرئاسي وأي أحداث عسكرية في المنطقة وجنوب لبنان، بعدما قدّمت وصفاً اقترب من ان يشير الى «الدولة المتحللة» في لبنان ما لم يستكمل اللبنانيون ما هو مطلوب لإيجاد رأس الدولة عبر جلسة انتخابية ودورات مفتوحة حتى انتخابه. وهي آلية قد تصطدم بمواقف اخرى لا يُستهان بقوتها، ومنها التي لم تُبد أي استعداد لأيّ مفاوضات في شأن الجنوب او الاستحقاق الرئاسي قبل وقف العدوان على غزة. وهي خطوة قد تؤدي، ان كبرت الضغوط الدولية، الى تفكيك بعض التفاهمات العميقة لعبور الاستحقاق. فثمة من يعطي اشارة الى ان الحديث عن «مواصفات الرئيس» قد انتهى، وأنّ التشاور الذي قاد إلى البَت بالصيغة التي اعتمدت لمعالجة ملف النازحين السوريين قبل أيام كانت بروفة متقدمة لشكل التشاور المطلوب وتكوين الأكثرية المتعثّرة حتى اليوم، والمؤدية الى انتخاب الرئيس بعدما تعددت الاكثريات التي شكّلت لملفات وقضايا تقل شأناً من مسألة انتخابه. وهو ما سيُبنى عليه الرهان في الايام المقبلة، مع ضرورة التنّبه لأهمية تحالفات جديدة يمكن ان تُبنى على أنقاض سوابق منها، وقد وَفت بما أُنشئت من اجله وانتهت مفاعيلها وأدوارها.