اكثر من اي وقت مضى، في المحطة المفترضة الاخيرة في تأليف الحكومة وهي العقدة السنّية، يتصرف الرئيس المكلف سعد الحريري وخصماه، غير المعلن حزب الله والمعلن النواب السنّة الستة، على ان ختام المواجهة ليس من صنع الدستور
لا يكفّ الرئيس المكلف سعد الحريري، ومن ورائه تيار المستقبل ثم انضم اليهما حزب القوات اللبنانية، عن القول انه هو صاحب الصلاحية الدستورية في تأليف الحكومة، ولن يسمح لأحد بالتعرّض لها او الانتقاص منها. واذ يؤكد رفضه الشرط الذي يفرضه عليه خصماه، حزب الله والنواب السنّة الستة، بتوزير احد هؤلاء، يعرف ان من المتعذر عليه – بالممارسة – اثبات حصرية الصلاحية الدستورية تلك. بذلك – متجاوزاً ضمناً كل ما يدلي به علناً – ينتظر مخرجاً سياسياً لأزمة بدأت دستورية، ثم أضحت خليطاً سياسياً مذهبياً.
الامر نفسه بالنسبة الى حزب الله والنواب السنّة الستة. لا يملكان ان يفرضا، دستورياً، على الحريري حتى الآن على الاقل شرطهما، ولا يسعهما سوى سياسياً منعه من تأليف حكومته. أما المانع الدستوري فهو من صنع الرجل نفسه.
على نحو كهذا يرابط الفريقان وراء تصلّبهما، ويُظهران تشبثاً بعدم التزحزح عنه، كأنهما ينتظران حدثاً ما.
ثمة طرف ثالث في صلب المعادلة الشائكة هو رئيس الجمهورية ميشال عون، الشريك الدستوري الملزم للحريري في توقيع مرسوم تأليف الحكومة، المعني السياسي المباشر ايضاً بالمأزق الحالي. وهو الدافع الرئيسي الذي يجعل الرئيس المكلف يكتفي بالرفض، من غير ان يفكر في ملامح مخرج للتأليف العالق. أُسديت اليه اكثر من نصيحة بتفادي اي مغامرة – شأن ما يدعوه اليها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع – بتأليف «حكومة بمَن حضر». مفاد النصيحة أن عون لن يوقع صيغة مماثلة. كذلك لا يسع الحريري الا استعادة تجربة سلفه الرئيس فؤاد السنيورة ما بين كانون الاول 2006 وأيار 2008، عندما عجز بعد استقالة الوزراء الشيعة الخمسة عن قبولها، وفي الوقت نفسه عدم المجازفة بتعيين وزراء شيعة سواهم من خارج ثنائي حزب الله وحركة امل. ومع ان حكومته احتفظت بأكثرية ثلثيها من بين حلفائه في قوى 14 آذار، الا انها عجزت عن الحكم باسم «الميثاقية».
شأن رفض السنيورة الاقرار بمفاعيل استقالة الوزراء الشيعة الخمسة كي لا تنهار حكومته برمتها، يرفض الحريري الآن شرط حزب الله توزير اي من النواب السنّة الستة كي لا يسلّم بأنه مدين بتأليفها لثنائي حركة أمل وحزب الله وليس لصلاحياته الدستورية.
بالتأكيد لا يُحسد الرجل على حاله في ظل معطيات منها:
اولها، ان من غير الطبيعي الاعتقاد بأن وزيراً سنّياً واحداً معارضاً – وإن من صفوف النواب الستة – يسعه اقلاق الرئيس المكلف عندما يصبح رئيساً للحكومة، ويضرب توازنها الداخلي او يتلاعب بقراراتها، بما في ذلك اسوأ الاحتمالات وهو انضمامه الى وزراء حركة أمل وحزب الله الستة.
ثمة سابقة خبرها الحريري في حكومة السنيورة عام 2008، على اثر تسوية الدوحة، عندما حاز فريق الغالبية المتمثلة في قوى 14 آذار على 16 وزيراً يمثلون النصف+1 من بينهم المقاعد السنّية الستة كلها الى مقعد شيعي حل فيه حينذاك ابراهيم شمس الدين، بينما اكتفى الثنائي بخمسة مقاعد. في المقابل، في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 تنازل الثنائي عن احد المقاعد الستة المخصصة للطائفة الشيعية كي يحلّ فيه وزير سنّي سابع خلافاً للاعراف المتبعة في مثالثة حصة الموارنة والسنّة والشيعة. كلا وزيري 2008 و2011 لم يخل بتوازن قوى السلطة الاجرائية. لم يُضف ولم ينتقص. لا الاول كان عبئاً على الثنائي، ولا الثاني عبئاً على رئيس الحكومة. كلاهما لم يسجّل سابقة بدليل عدم تكرارها مذذاك. لم يعدُ الامر سوى مخرج.
ليس التوزير وحده، ولا الشخص، مصدر العلة التي يشكو منها، مقدار مرجعيته – والمقصود حزب الله – اذ تفرض عرفاً غير مسبوق في آلية التأليف، كما في تغلغل طائفة في اخرى: بامتناعها عن تسمية وزرائها وإقرانه بطلب توزير في الطائفة الاخرى.
ثانيها، يقيم قلق الحريري وهاجسه في ان تسليمه بتوزير احد النواب الستة يفتح باباً للهواء البارد على طائفته بتكريسه واعترافه – للمرة الاولى منذ عام 2005 – بأنه لم يعد وحده ممثل السنّة في السلطة الاجرائية والحكم نفسه. باستثناء حكومة ميقاتي عام 2011، لم يؤتَ بوزير سنّي معارض للحريري الى اي من الحكومات التي ترأسها هو (2009 و2016) او حليفاه (السنيورة 2005 و2008) والرئيس تمام سلام (2014) من شأنه ايضاً ان يرسل اشارة جدية الى ثنائية سنّية منبثقة من شرعية الانتخابات اكثر منها من شرعية انقلاب توازنات الداخل (كحكومة ميقاتي 2011). في الحكومات الخمس للسنيورة والحريري وسلام، لم يُوزّر سنّي من خارج تيار المستقبل الا بمشيئة الحريري بالذات كمحمد الصفدي (2008 و2009) وعدنان القصار (2009) ومحمد المشنوق ورشيد درباس (2014). اما طارق الخطيب في حصة رئيس الجمهورية في حكومة 2016، فثمن مقايضة بمقعد ماروني في حصة الحريري. لم يُعطَ الرئيس السابق ميشال سليمان – وقد لا يكون طلب – حصة سنّية شأنه في حصة شيعية في حكومة الحريري عام 2009، سرعان ما انقلبت عليهما معاً بعد 13 شهراً.
الحريري ينتظر مخرجاً سياسياً لأزمة دستورية
ما يعنيه ذلك ان الحريري – بعدما فقد ثلاثة نواب شيعة رجح فوزهم في انتخابات 2009، ثم فقد في الانتخابات الاخيرة عشرة نواب سنّة – يجبه حزب الله الذي حصد المقاعد الـ27 في طائفته، وكسب ستة نواب سنّة خصوماً مباشرين للحريري الذي لم يتردّد – في انتخابات 2018 – في الذهاب بنفسه الى دوائرهم في البقاع الغربي (عبدالرحيم مراد) وشبعا (قاسم هاشم) والضنية (جهاد الصمد) وطرابلس (فيصل كرامي)، ناهيك ببيروت (عدنان طرابلسي)، يخوض المواجهة معهم وتأليب الناخبين السنّة عليهم. مع ذلك انتزعوا منه مقاعدهم في البرلمان بفضل الصوت التفضيلي السنّي.
ثالثها، ليس سهلاً على رئيس الجمهورية ان يوافق على ما يحرّمه عليه الرئيس المكلف ثم يحلّله لنفسه، فيوصد اي باب محتمل للحل. في الاجتماع ما قبل الاخير في قصر بعبدا، ابلغ الحريري الى عون انه لن يقبل بتوزير اي من النواب الستة من حصته، وربط مقايضة مقعد سنّي في حصة الرئيس بمقعد مسيحي في حصته بشرط ان لا يُوزَّر احد منهم او يختارونه، ويوافق تالياً على وزير سنّي بمواصفات الوزير في حصة عون طارق الخطيب. بذلك توخى تقييد رئيس الجمهورية بشرط ألزم نفسه به، من دون ان يجاريه الرئيس فيه بالضرورة. وقد تكون الاشارة البالغة الدلالة التي ارسلها عون – الى الرئيس المكلف اولاً واخيراً – تحدّثه عن الأم الحقيقية لا المزعومة للصبي.