IMLebanon

إنقضاض “العثمانية الجديدة” على الإسلام والمسيحية!

 

“آيا صوفيا”… “صفقة” تركيّة أم شدّ عصب ديني؟

 

هي “آية”، هي جوهرة، هي رمز وتاريخ وأسطورة مسيحية احتضنت ذات زمان أجمل الأيقونات وأكبر الأجراس وأقدم جرن للمعمودية، وأروع فسيفساء وعمارة بيزنطية. هي الكاتدرائية المسيحية “آيا صوفيا”. هي محجٌ مسيحي لن يدرك مقامه من لم يزره، أو من خلا من الإيمان، أو من يريد أن يشوّه التاريخ ويصلب مسيحيي الشرق غير مدركٍ أنهم، كما كنيستهم، كما مسيحهم، قياميون وملح الشرق. “آيا صوفيا”، الكنيسة، يريدها رجب طيب أردوغان مسجداً وهي لا تريد من المؤمنين، مسيحيين ومسلمين، إلا أن يتضرعوا من أجل الأخوّة الإنسانية والسلام العالمي والعيش المشترك. فهل تُخطئ المسيحية في انفتاحها؟ هل المسيحية في الشرق في خطر؟ هل هناك صفقة سياسية “هندسها” أردوغان و”دفعتُها الأولى” إحدى أقدم الكنائس في الشرق؟

 

هناك من صفق فرحاً معتبراً أن هذا الإستيلاء إشارة نحو إعادة المسجد الأقصى الى جلباب المسلمين، وهناك من احتج وحذّر معتبراً أن هذا القرار هو بمثابة تجاوز لمسيرة نقية من التلاقي والتفاف فظيع على نوايا مواجهة العصبيات والتطرّف، وهناك من استعاد مشاهد الجرائم العثمانية وفظائع التاريخ، وهناك من عبّر عن فخره في أنه مسلم تركي، وهناك من راح يقرأ في دروس التاريخ والجغرافيا والإسلام والمسيحية والشرق والغرب… فهل “تعويم” كل هذه التناقضات واستثارة الأديان مجرد قرار قضائي صدر عفواً في هذه اللحظة التاريخية المفصلية التي يُحكى فيها عن نظام عالمي جديد و”عثمانية جديدة”؟

 

المثقفون من المسلمين والمسيحيين تلاقوا حول إمكانية تغيير، أي طرف “مستقوٍ”، الحاضر، لكن ثمة استحالة في تزييف التاريخ. فـ”آيا صوفيا” التي بدأ تشييدها العام 527، وافتتحت العام 537، لتكون أكبر كاتدرائية مسيحية في العالم، حوّلها العثمانيون بعد سقوط القسطنطينية العام 1453 الى مسجد. وأصبحت العام 1935 متحفاً. وها هو رجب طيب أردوغان يحوّلها في تموز 2020 الى مسجد. تواريخ ومحطات واستنكار وتحذير، وسخط وقلق وفتح جروح قديمة داكنة بلون الدم الأحمر… فلماذا كل ذلك الآن؟ وهل الإذعان اليوم الى القرار التركي هو بمثابة انسحاب مسيحي متجدد من تلك الأرض؟

 

البروفسور في الدراسات الإسلامية ومؤسس مركز أبحاث دراسة الخطاب الفكري بين اليهودية والمسيحية والإسلام في جامعة إرلنغن ـ نورنبرغ، الدكتور جورج تامر الذي غادر لبنان إلى ألمانيا قبل 32 عاماً، وجزء من قلبه ما زال هنا، وسبق وزار “آيا صوفيا” بدل المرة مرات، قرأ في أبعاد إعلان تركيا “العصرية والعلمانية” المعلَم البيزنطي الكنسي التاريخي مسجداً. يتحدث تامر عن “لااستقلالية القضاء في تركيا” ويقول: يعمل هذا القضاء للأسف، في أحيان كثيرة، بتوجيهات سياسية. والسياسة التركية تتوجه اليوم الى إعادة إحياء الأمجاد العثمانية. نحن اليوم أمام عثمانية جديدة. ثمة طموحات جديدة وحسابات سياسية يطرحها رجب طيب أردوغان. إنه يريد تجييش مشاعر المسلمين المؤمنين وكسب الأصوات والدعم وحرف النظر عن الوضع الإقتصادي التركي المتهالك. يضيف: “أول مرة زرت فيها “آيا صوفيا” العام 2009 سحرتني بجمال فنها المعماري الفريد. ولم أنسَ يوماً تلك الحادثة التي حصلت معي. رأيت امرأة مسنة تجلس في إحدى زوايا الكنيسة مرتدية الزيّ التقليدي. سألتها عن سبب جلوسها في المكان ومراقبتها الجميع بحزن، أجابتني بسؤالين: ألا ترى ماذا يحصل؟ ألا ترى كيف يتصرف الناس؟ قلت لها: ماذا يزعجك في ذلك؟ ردت: هذا ليس مكاناً للسياحة. هذا جامع. أجبتها: وهل تدرين ماذا كان قبل أن يتحول الى جامع؟ لم تجبني وابتعدت عني. هذه المرأة تعكس نظرة الأتراك المحافظين. وأردوغان يلعب على وتر مشاعر هؤلاء. قرار المحكمة يُشكل ضربة هائلة لسياسة الإنفتاح على أوروبا والتلاقي بين الأديان”.

 

هل نفهم من هذا أن التقدم الذي أحرز في اتجاه التقارب بين الأديان والإنسانية الواحدة في خطر؟ يجيب تامر: “ليس مردّ هذا الخطر ما حصل فقط في تركيا بل هناك أسباب أخرى في عالمنا هذا تجعل مسألة التقارب بين الأديان في وضع دقيق، كي لا أقول في خطر، لكن كل ذلك يجعلنا نصرّ على التقدم الى الأمام بدل فرملة حراكنا في اتجاه هذا التقارب بين الأديان، والذي لن يحصل فعلياً إذا لم يحدث الإنسجام والتفاهم والسلام داخل كل منظومة دينية. وبالتالي إذا كنا نشهد حالياً وضعاً صعباً في الشرق الأوسط وتركيا فهذا لن يثنينا أبداً عن المتابعة لتعزيز التقارب المنشود. يضيف: التقوقع الناتج عن خيبات الأمل لا يفيد وعودة كل جماعة للإنطواء على حالها يضرّ. والتقارب لا يُضعف أبداً الهوية لأن لا أحد يتقرّب من الآخر إلا إذا كان ذا هوية قوية منفتحة”.

 

يبدو أننا دخلنا في “دهليز” محاولات العودة الى “العثمانية الجديدة” منذ أعوام، وليس الآن، “خذوا على سبيل المثال السينما أو التلفزيون التركي الذي أطلّ منذ سنوات ببرامج جديدة تُمجد الفتح العثماني وتضع هالة من القدسية على التاريخ العثماني، وهذا ما جرح مشاعر الكثير من البشر. ليس التاريخ كما يصوّرونه صحيحاً. التاريخ بالنسبة الى البعض بئر يرمون فيه ما يشاؤون من غايات تخدم الحاضر. وبالتالي ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إرسال إشارات ورموز تُكرس ايديولوجيات خاصة”، ينهي جورج تامر.

 

غريبٌ حقا هو الكلام الكبير الذي صدر عن رجب طيب أردوغان واستعار فيه مرادفات “غريبة عجيبة” لها مدلولات خطيرة. هو قال: “إحياء آيا صوفيا سلام مرسل الى كافة المدن من بخارى الى الأندلس”، و”هو بعث جديد قد تأخر”، و”تركيا تؤكد انها فاعل لا مفعولاً به”، و”سنصل الى هدفنا المنشود”. تُرى ما هو هدف اردوغان؟

 

دعونا نستعين بسؤال المطران جورج خضر في أيلول العام 2011: السيد أردوغان لا يقرأ؟ ويومها كتب ردّاً على كلام اردوغان: “إن تركيا والعرب يشتركون في العقيدة والثقافة والقيَم. والعقيدة بلا منازع هي الاسلام”. وعلق المطران بالقول: “دولته لا يرى وجود اثني عشر مليون مسيحي عربي على الاقل وهؤلاء لا ينتظرون من أجنبي تحديد هويتهم القومية”… واستطرد بالقول: الأكثر مخافة مما سبق قول السيد اردوغان: “كان في التاريخ التركي شاب تولى انهاء حضارة سوداء وتدشين حضارة جديدة عريقة عندما فتح اسطنبول وهو محمد الفاتح”. وسأله المطران خضر: “هل قرأ الحضارة البيزنطية التي يسميها سوداء. الأتراك عسكر أقوياء استطاعوا مع مؤامرة الأساطيل الغربية التي كانت تربض هناك ان يغلبوا أعظم فكر حضاري”. وختم: “أنت ايها السيد اردوغان لست معذوراً ان رأيت النور ظلاماً. أجدادك اقتحموا المدينة التي كانت تعرف أنها وحدها آنذاك مقر الحضارة في العالم. فأنصِف ما كان قبلك جميلاً واقرأ”.

 

كلامٌ رائع من “سيّد الكلام” حقاً. لكن، إذا كان السيد أردوغان لم يقرأ فماذا يكتب؟

 

 

الأب ثاوذورس داود، الكاهن في الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية التقليدية، غاضب جداً من فعلٍ نُفذ عن “سابق قصد وتصميم” ويقول: “أتى هذا الحكم في سياق مخطط كبير، إستفزّ جميع المسيحيين، وهو سيُشكل اختباراً حقيقياً لمصداقية رؤساء الكنيسة، بعيداً من كلمات “نأسف” و”نستنكر” و”نعترض” و”نحتج”. يجب أن تتحرك كل الكنيسة، بكل مذاهبها لمواجهة هذا الفعل الإستفزازي الخطير”.

 

هل نفهم من هذا أنه يفترض بالكنيسة “إعلان الحرب”؟! يجيب داود: “ثمة قانون دولي ومحاكم فلتُرفع دعوى سريعة الى المحاكم المختصة”. وماذا عن الكلام عن صكوك تحوزها تركيا بامتلاك الكنيسة – المتحف؟

 

أمين عام الحركة الأرثوذكسية سابقاً المحامي ابراهيم رزق يقول: “حين تسقط مدينة عسكرياً ويُنفذ المعتدي كل أنواع الإجرام والإغتصاب والقتل وسفك الدم، لا يعود مجدياً الكلام عن بيع وشراء لأن هذه العملية تحتاج الى توافر التوازن بين طرفين”. ويستطرد: “لا أحد يملك حق بيع كنيسة آيا صوفيا. الوقف لا يباع. هذا كلام ديماغوجي لا أساس له”.

 

إبراهيم رزق يتمنى لو قيل: “سنرفع اسم الله في المكان”، لكن أن يُصار الى محو التاريخ وطمس الهوية وتأليب المواجع ونكء الجراح، من خلال استخدام الدين مطية فهذا أمر خطير. ولعلّ أكثر المستهدفين من قرار أردوغان هم المسلمون.القرار يُشوّه إرادتهم. يلعب أردوغان على العصبية ويحاول أن يستفيد من تأجيجها، بعدما خسر بسقوط بلدية إسطنبول من يديه ويواجه أسوأ أزمة إقتصادية. إنه يحاول اليوم أن يوقظ حلماً تركياً قديماً مستعيداً الخلافة الإسلامية. إنه يزايد على مصر والسعودية والدول الإسلامية من خلال العصبية الدينية، في سبيل إمساك الأرض العربية”.

 

“آيا صوفيا” هي، بحسب الأب داود، “أم الكنائس؟ إنها الجوهرة. إنها من عجائب الدنيا ورمز المجد البيزنطي. فليلتقِ رجال الدين، على اختلاف مللهم، وليخرجوا بقرار “يكرس وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”. وما قاله الكاهن الأرثوذكسي يتلاقى مع بيان مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يعتبر “ان العالم أجمع معني بوقفة ضمير وموقف حاسم من هذا القرار. والقوى المجتمعية والدينية الحية في تركيا مدعوة لوضع حدّ لهذا الإعتداء والتجاوز بما يحافظ على حقيقة العيش بعمقها”.

 

هذا الإعلان، في هذه اللحظة الزمنية، غير بريء أبداً. وهو يُصيب المسلمين قبل المسيحيين. ويُنذر بمحاولة جدية بانطلاقة “العثمانية الجديدة”… ماذا عن الكنيسة المارونية؟ ماذا عن موقف بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق بشارة الراعي؟ بدا البطريرك – الكاردينال في عظة الأحد (البارحة) وكأنه يحاول إمتصاص الغضب المسيحي بقوله: القرار التركي يؤكد قيمة لبنان العيش المشترك، حيث الإحترام بين المسلمين والمسيحيين، ونصلي كي يظل لبنان مثال هذا العيش”.

 

الراعي، الذي كان أول بطريرك لإنطاكيا وسائر المشرق، يزور إنطاكيا شاهد على حال المسيحيين في تلك البلاد. فماذا يقول من تبقى من المسيحيين هناك؟ المسيحيون الأتراك يصلون في أي كنيسة مفتوحة، لاتينية أو أرثوذكسية أو كاثوليكية. كنائس كثيرة تحولت الى جوامع. الأديار أممت بعد الفتح الإسلامي. وكل كنيسة مرّ وقت لم يُقَم فيها قداس أُمّمت. المسيحيون هاجروا من هناك. ولم يعد يوجد ماروني واحد في إنطاكيا. كان هناك فندق يملكه مسيحي ماروني باعه. في إسكندرون أقل من أربعين مارونياً. المسيحيون يغادرون. في اسطنبول أكثر من 400 كنيسة تحول كثير منها الى جوامع تحت خانة “لا أصحاب لها”. الأتراك يشددون حين يحلو لهم ويتراخون حين يحلو لهم. أجندة أردوغان تُحدد منسوب “النفس” المسموح به للمسيحي الثابت في الأرض.

 

هل نفهم من هذا أن هناك تقصيراً كنسياً؟

 

نتذكر أن بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق حين طلب قطعة أرض لتشييد كنيسة مارونية في إنطاكيا أجابه رئيس بلدية المدينة: وهل هناك جماعة مارونية لتبنوا لها كنيسة؟ أجابه البطريرك: وكيف تكون هناك جماعة لا مركز لها؟

 

ما حصل مع “آيا صوفيا”، في توقيته، ليس مجرد صدفة. وهو يحدث في وقت تثق فيه الكنيسة “بالأنجلة الجديدة”، وبكنيسة تخاطب إنسان اليوم، في حين أن هناك من استيقظ ليعلن بداية إعلان “العثمانية الجديدة”!