لم يكن ينقص سوى المواقف المتناقضة الصادرة عن «بيّ الكل» من الفاتيكان، وتلك الصادرة عن «بيّ الموارنة» من مصر، للدلالة عن عمق الاختلاف القائم بين رئاسة الجمهورية والكرسي البطريركي، في رحلة العلاقة المتوترة التي بدأت منذ نهاية الثمانينات مع ذهاب بكركي في اتجاه تبني ودعم اتفاق الطائف خلافا لحسابات الحكومة الانتقالية التي قامت وقتها، والتي انتهت الى «قبع الجنرال» من القصر الجمهوري بغطاء من الصرح، قبل ان يعود من منفاه بثورة قادها البطريرك نفسه يومها.
علاقة لا يحتاج المتابعون الى كثير من الجهد لتبيان التوترات العالية التي تضربها عند كل هزة او مفصل، خصوصا بعيد اندلاع «ثورة 17 تشرين» ودعم الصرح لها، والذي بلغ حدود «انقلاب» بعض صقور المطارنة المحسوبين على التيار العوني ضده، او على الاقل تموضعهم في المنطقة الرمادية، ليزيد من طين العلاقة بلّة حماية البطريرك الراعي لموظفين موارنة، يسعى العهد لحصد «رؤوسهم»، ما فتح ابواب جهنم الجيوش الالكترونية البرتقالية وحلفائها بلغت حدّ التهجّم الشخصي ضد البطريرك والمس بالكرامات.
مصادر متابعة لملف العلاقة بين الطرفين، ترى ان بكركي صارحت رئاسة الجمهورية في الكثير من المرات بهواجسها ومخاوفها، سواء في الامور والتفاصيل الداخلية وحتى في ما هو ابعد من ذلك، اذ تنطلق رؤيتها للبنان من خارج منطق تحالف الاقليات، الذي لن يأت باي فائدة للمسيحيين، في ظل الدور الواسع الذي حظي به حزب الله مع وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية والغطاء الذي تحظى به الحارة، والذي لا يمكن للبطريركية المؤتمنة على التنوع اللبناني والحفاظ عليه كرسالة من القبول به، رغم انها خاضت معركة الرئيس المسيحي القوي لاعادة الاعتبار للدولة وللدور المسيحي فيها، وهو ما لم يحصل.
وتتابع المصادر ان المشكلة الحالية تكمن في ان بكركي ونتيجة اتصالاتها الداخلية والخارجية، التي شملت مروحة واسعة من الاطراف، توصّلت الى قناعة ان «لبنان مريض ونحن بحاجة إلى علاج مرضه وهو عدم تطبيق إتفاق الطائف والحلّ هو إعلان الحياد»، والحل راهنا هو في «استراتيجية دفاعية، لو أقرت لربما كان الوضع أفضل»، ليتمكن بالتالي من العودة الى محيطه وبيئته العربية، وهو ما اكد عليه البطريرك بوضوح خلال لقاءاته مع المسؤولين في القاهرة، والذي سمع منهم كل تأييد ودعم في هذه المرحلة التي تعاد فيها صياغة المنطقة.
ورأت المصادر ان مواقف رئيس الجمهورية من الفاتيكان وان جاءت «حدة»، وتذكر بما قيل عن منبر نيويورك قبل ثلاث سنوات ودفع لبنان ثمنه باهظا، الا انها في نفس الوقت تتقاطع مع رؤية بكركي، التي لها هامش حركتها وحريتها، بالتعاون والتنسيق مع الكرسي الرسولي، الذي يؤيد ويدعم فكرة الحياد التي تعتبر من ركائز برنامج البابا الحالي في نقاشه للازمات الدولية.
وختمت المصادر بالقول ان المراهنين على خلاف بين بكركي وروما مخطئون و «يخيطوا بغير هالمسلة»، لانهم لا يعرفون اولا طبيعة العلاقة «القانونية» والتنظيمية التي تربط الموارنة بالبابا وثانيا لجهلهم بحقيقة موقف الفاتيكان الجدي من الصراع في منطقتنا.
فهل نشهد لقاء بين الجنرال والبطريرك في بعبدا يعيد رسم المشهد اللبناني الداخلي؟ ام سننتظر حتى قداس عيد القيامة؟ المتابعون يؤكدون ان «وعظات سيدنا» خلال الاسابيع المقبلة ورسالة الفصح ستكون حافلة بالمواقف النوعية، وببوصلة بكركي ومن خلفها الفاتيكان، خصوصا في حال الفراغ الذي تسير البلاد نحوه بخطى ثابتة، إن لم يكن في ايار ففي تشرين.