أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في كلمته ليل 2 تشرين الأول الحالي أنه لا يسيطر على قرار الدولة اللبنانية، ولو كان يسيطر لكان أرسل رئيس الوزراء إلى سوريا ليبحث مع النظام السوري هناك مسألة السماح بعودة النازحين. ولكنّه في الكلمة نفسها لم يُحمِّل النظام السوري أيّ مسؤولية عن هذا النزوح ودعا السلطة اللبنانية إلى تحميلهم في البواخر وإرسالهم إلى أوروبا. وأكد تمسكه بمرشحه سليمان فرنجية وبالتالي تعطيله انتخابات الرئاسة ليثبت أنّه يسيطر على قرار الدولة، على عكس ما قاله.
ربّما من الصدف الجميلة أنّ مطار القليعات في عكار فتح مدارجه للمرة الأخيرة في 5 تشرين الثاني 1989 لانتخاب نائب زغرتا رينيه معوض رئيساً للجمهورية، في تحدٍّ لطرفين أساسيين في لبنان كانا معارضين لـ»اتفاق الطائف» الذي أنجزه النواب اللبنانيون برعاية المملكة العربية السعودية في 23 تشرين الأول من ذلك العام: الطرف الأول العماد ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية الذي كان يرفض انتخاب أي رئيس غيره، أمّا الطرف الثاني فكان «حزب الله» الذي كان يشنّ هجمات شرسة ضد هذا الإتفاق ويدعو إلى تغيير هوية الدولة اللبنانية مطالباً بجمهورية إسلامية تشكِّل امتداداً لولاية الفقيه في إيران. ومن الصدف غير الجميلة أنّ هذين الطرفين عادا والتقيا بعد اتفاقهما في 6 شبط 2006 على تعطيل انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني 2007 بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، وفي أيار 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وفي تشرين الأول 2022 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
عندما لا يسمح «الحزب»
في تشرين الثاني 1989 لم يقاطع النواب جلسة الإنتخاب، من كانوا خارج لبنان وصلوا بالطائرات إلى مطار القليعات الذي استعد على عجل لاستقبالهم. ولكن الردّ على هذا الإنجاز الدستوري أتى في 22 تشرين الثاني من ذلك العام باغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض في قلب بيروت، وفي يوم الإستقلال، في عملية تفجير لم يتوفّر في ملف التحقيق فيها أي معلومات على غرار عمليات اغتيال وتفجير كثيرة يُمنع فيها الوصول إلى الحقيقة.
من غريب الصدف أن تأتي عملية التأكيد على سيطرة «حزب الله» على قرار الدولة من ملفّ مطار القليعات بالذات، الذي صار اسمه مطار الرئيس رينيه معوض بعد انتخابه فيه وبعد اغتياله. وفد نواب «تكتل الإعتدال الوطني» الذي يضمّ عدداً من نواب عكار حمل هذا الملف لوضعه موضع التنفيذ ولكنّه أجبر نفسه على المرور عبر معبر «حزب الله». ذهب يسأل «الحزب» إذا كان يسمح له بأن يمشي بمشروع تسيير المطار في عكار. وكان جواب «الحزب» سلبياً باعتبار أنّ هذا المطار سيكون خارجاً عن سيطرته ومراقبته، الأمر الذي يعني أنّه يسيطر على مطار بيروت، وأنّ أي عمل مثل هذا المشروع لا يمكن أن يمرّ إلا بموافقته، وأن الحلّ والربط بيده. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بانتخاب رئيس للجمهورية؟ أو بموضوع عودة النازحين السوريين إلى بلادهم؟
إنقلاب الحزب على «تفاهم الدوحة»
حمّل الأمين العام لـ»حزب الله» الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية النزوح السوري لأنّها هي التي أشعلت الحرب ضد النظام. وهي التي تحاصره بموجب «قانون قيصر» وتمنعه من النهوض بعدما اعتبر أنه انتصر عسكرياً ولم ينهزم. لم يحمِّل نصرالله حزبه والنظام السوري أي مسؤولية عن هذا النزوح خصوصاً أنه شارك بفعالية في المعارك داخل سوريا، وأجبر الآلاف على النزوح نحو لبنان. وهذا النزوح حصل منذ العام 2011 على عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي شكّلها «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» بعد الإنقلاب الذي نفّذوه على حكومة الرئيس سعد الحريري في 12 كانون الثاني 2011.
لم تكن حكومة الرئيس سعد الحريري وقتها إلا نتاج «اتفاق الدوحة» الذي أوصل الرئيس ميشال سليمان إلى قصر بعبدا مقابل السماح لـ»حزب الله» بالتحكّم بقرار الدولة اللبنانية. في الواقع لم يكن ذلك الإتفاق إلا انقلاباً كاملاً على اتفاق الطائف وتزويراً لآلية تطبيقه وحرفاً له عن أهدافه خصوصاً لجهة إعطاء «الحزب» حق الفيتو على كل القرارات التي يمكن أن تصدر أو المشاريع التي يمكن أن تحضر وعلى القرار السياسي. ذلك الإتفاق لم يكن من الممكن الوصول إليه إلّا بعد الإنقلاب العسكري الذي نفّذه الحزب في 7 أيار 2008 لينهي مفاعيل التحوّل السياسي الكبير الذي حصل في 14 آذار 2005 وألغى أهدافه التي رسمها من خلال اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط من ذلك العام والذي كان من أولى نتائجه سحب الجيش السوري من لبنان.
منذ ذلك التاريخ و»الحزب» يمسك بقرار السلطة اللبنانية. انقلابه على حكومة الحريري كان انقلاباً على اتفاق الدوحة حتى يتمكن من الحكم لوحده. صحيح أنّه لا يمكنه أن يفعل كل ما يريده ولكن لا يمكن أن يحصل أي إنجاز أو أي عمل إلا بموافقته، ومطار القليعات مثل على ذلك من أمثلة كثيرة. فهو يمنع انتخاب رئيس الجمهورية ويريد فرض الرئيس الذي اختاره. وهو يحتكر التمثيل الشيعي مع حليفه الرئيس نبيه بري. وهو يعطل النصاب في جلسات الإنتخاب. وهو الذي شكّل الحكومات طوال عهد حليفه الرئيس ميشال عون ووجّه بوصلته السياسية حتى بلوغ الإنهيار الشامل.
وهو الذي شكّل حكومتي الرئيسين حسان دياب ونجيب ميقاتي منذ العام 2019 بعد ثورة 17 تشرين، وهو الذي يمنع التحقيق في تفجير مرفأ بيروت كما في قضايا أخرى تحوم فيها حوله الشبهات، كاغتيال الكاتب لقمان سليم والقيادي القواتي الياس الحصروني. وهو الذي يتصرف وكأنّه السلطة الشرعية وينقل الأسلحة والمسلحين بين لبنان وسوريا ويتدخّل في اليمن والعراق والبحرين. وهو الذي يُفتي بما يجب أن تفعله السلطة وبما يجب أن لا تفعله.
هل يمكن العودة من «الدوحة» إلى «الطائف»؟
انتخابات 15 أيار 2022 شكّلت مفصلاً أساسياً ووضعت حدوداً جديدة للمواجهة التي تخوضها المعارضة مع «الحزب». التوازنات النيابية الجديدة منعته من أن يفرض مرشحه سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية انطلاقاً مما قاله عنه نصرالله وعن ثقته بشخصه وبأنّه لا يمكن أن يطعنه في الظهر. ولكن في هذا الخيار يظهر أنّ «حزب الله» عاجز كما قال نصرالله. من هنا تتّجه طبيعة معركة رئاسة الجمهورية إلى استرداد ما أعطي للحزب في الدوحة في أيار 2008 ولكنّ «الحزب» متمسّك بهذه العطاءات، ويستطيع حتى الآن أن يمنع هذا التحوّل من خلال تعطيل المبادرات الرئاسية والإنتخابات. فإذا كان لا يقبل برئيس يعتبر أنّه يطعنه في الظهر، وإذا لم يكن لديه أي اسم آخر غير فرنجية، فكيف يمكن أن يقبل برئيس يضمن أنه لا يطعنه في الظهر وفي الوقت نفسه لا يخضع لقراراته؟
وإذا كانت المبادرة الفرنسية وصلت، مع الموفد الرئاسي جان إيف لودريان، إلى خيار البحث عن مرشح ثالث غير مرشَّحَي جلسة 14 حزيران الرئاسية، سليمان فرنجية وجهاد أزعور، وإذا كانت قطر تمهّد لاستلام المبادرة رسمياً وعلناً من باريس بعد اعتذار لودريان، وطالما أنّها تطرح منذ البداية اسم قائد الجيش العماد جوزاف عون خياراً ثالثا للخروج من المأزق، فإنّ «الحزب» ليس في وارد القبول بهذا الخيار لأنّه يعتبر أنّ أي تراجع عن فرنجية انكسار، وأنّ القبول بشروط هذا الإنتخاب الجديد يعني التنازل عما حققه في «اتفاق الدوحة».
وهو لذلك يعتبر أن ما يحصل حالياً هو انقلاب سياسي على انقلابه العسكري في أيار 2008. ولذلك يناور في تسريب إمكانية القبول بترشيح العماد جوزاف عون من أجل الضغط على رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ليحمله صاغراً على القبول بانتخاب فرنجية والعودة إلى اتفاق الفطور على مائدة السيد حسن نصرالله حين وعده بضمانات يتعهّد بتحقيقها له مع الرئيس نبيه بري ومع الرئيس المنتظر فرنجية. فهل من يتعهد بمثل هذه الضمانات يكون لا يسيطر على قرار الدولة؟ وبالتالي هل يمكن أن يقبل باسيل بانتخاب فرنجية مقابل هذه الضمانات خوفاً من نتائج انتخاب عون؟ يعرف باسيل أنّ ما يحصل على هذا الصعيد ليس إلا مناورة لن تتحقّق، ولذلك هو باق على موقفه بحثاً عن ضغط مماثل على «حزب الله» حتى يقبل بترشيحه له بدل فرنجية.
عندما تمّ الإعلان عن الإتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران في الصين، خفّف نصرالله حملاته على المملكة. إطلالته الأخيرة كانت تحت عنوان الإحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي صادف في 27 أيلول الماضي فلماذا هذا التأخير؟ وهل للأمر علاقة بما حكي عن تقدم عملية تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل؟ وهل اختار نصرالله المناسبة ولو متأخراً من أجل توجيه رسالة إلى السعودية والتحذير من التطبيع؟ ولكن في الجانب الآخر من المشهد كيف يمكن أن يفسر العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وإيران والنظام السوري مع أنّها متقدمة أكثر في العلاقة مع الكيان الإسرائيلي؟ وهل هذا الموقف المعادي للمملكة والمستعاد من أدبيات «الحزب» السابقة يقفل الطريق على أيّ حل رئاسي كما يقفله أمام مطار القليعات؟