الوضع في الجنوب اللبناني مستمر في المراوحة الميدانية ورتابة مشهد الإستهداف اليومي المؤلم أضحت أضعف بكثير من القدرة على إحداث ما يستدعي تدخلاً أو استنفاراً دولياً أو إقليمياً. رد حزب الله على إغتيال فؤاد شكر الذي بدا معلباً بجهود إيرانية سواء لجهة تواضع القدرات المستخدمة في الرد أو لجهة الإعتراف بانكشاف الهجوم قبل إنطلاقه، أكد أن طهران ماضية في الإلتزام بما لا يحرج واشنطن بالرغم مما أحدثه اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران من ندوب في صورة الجمهورية الإسلامية أمام دول محور الممانعة وجماهيرها.
أرادت طهران من خلال ترشيق الرد تأكيد قدرتها على السيطرة الكاملة على أذرعها وبالتالي جدارتها كشريك إقليمي لواشنطن معني بإستقرار المنطقة ومنها أمن إسرائيل، وهي في ذلك تضيف مناورة جديدة إلى ما بدأته مع إطلاق يد حزب الله في ما أسمته “مساندة غزة” لتحصين دورها وانتزاع إعتراف أميركي به والإرتقاء بالنديّة التي اقتضتها حروب الولايات المتحدة في أفغانستان واحتلال العراق وإنهاك سوريا وتهديد دول الخليج العربي.
يكمن مأزق طهران في رفض واشنطن تلقف تنازلاتها المتكررة وتحويلها إلى ثوابت في مسار دبلوماسي يفضي الى وضع أسس جديدة للإستقرار في المنطقة تشارك فيه طهران. أما مأزق لبنان فيكمن في مسألتين، أولهما إصرار طهران على استخدام الجنوب كمنصة مفتوحة لمخاطبة واشنطن من خلال استعراض قدراتها المزدوجة على تفجير الموقف أو السيطرة عليه. والثانية، إنكفاء الدولة المسؤولة على المستوى السياسي بالدفاع عن المصالح الوطنية وإن بحدودها الدنيا وامتلاك جرأة الموقف للخروج من عباءة حزب الله ومخاطبة المجتمع الدولي ـــــــ ومنه إيران ــــــــ كدولة معنية بالدفاع عن سيادتها ومصالحها العليا وعن مواطنيها. هذا ويرى الفريقان المتقاتلان في استمرار حرب الإستنزاف ما يكفي من الظروف الملائمة لإنتاج التسويات على حساب لبنان واللبنانيين، فإيران تشتري الوقت أملاً بتعديل مواقف الإدارة الأميركية فيما تعتقد إسرائيل أن الحرب القائمة تستنفد مخزونات الحزب وإيران وتضعف قدراتهما في المواجهة المقبلة.
وقد يكون في إعادة قراءة التجربة التي خاضتها “طاولة الحوار” لمناقشة مجموعة من المسائل ومنها سلاح حزب الله في أعقاب صدور القرار 1559 وخروج الجيش السوري من لبنان ما يكفي من الخلاصات لناحية الشكل أو المضمون للوقوف عند أسباب فشلها، وطرح مجموعة من الأسئلة للخروج من الدائرة المغلقة. أول تلك الخلاصات أن الحوار اتّخذ شكل التفاوض مع الحزب حول سلاحه من قبل مكوّنات سياسية وطائفية أخرى، واتّسم بتقديم الحوافز والعروض التشجيعية لإقناعه، مما أضفى على التفاوض طابع الصفقة وقدم للحزب الفرصة ليس فقط لرفض العروض المطروحة بل للتشكيك بموقف محاوريه من إسرائيل وبقدرة الدولة على الدفاع عن نفسها. كان من البديهي في أي دولة مسؤولة أن يتم عرض الموضوع ومساءلة الحزب أمام المؤسسات الدستورية لتحمل مسؤولياتها في إتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات العامة للدولة، فليس من مهمة المكوّنات السياسية أن تحاسب بعضها البعض أو أن تشرّع لبعضها البعض تجاوز الدستور والقانون.
أما لجهة المضمون، فقد افتقرت المقاربة التي اعتُمدت للموضوعية، وربما اتّصفت بالهروب الى الأمام، وهذا ما جعل النقاش أحادياً في غياب الفريق الآخر المعني. فالتفاوض يجب أن يكون مع إيران مباشرة وليس عبر الحزب الذي لا يملك أن يناقش مستقبل منظومة عسكرية إقليمية وضعت في خدمة تصدير الثورة ونظرية ولاية الفقيه. لذا لم يكن كافياً استخدام عنوان الاستراتيجية الدفاعية الوطنية أو الإستيعاب التدريجي للسلاح لإضفاء شروط النجاح على حوار من المطلوب أن يؤدي إلى إستثناء لبنان من هلال شيعي يمتد من الخليج العربي حتى المتوسط، وينهي هيمنة متناميّة لفريق مسلّح على القرار السياسي والأمن الوطني بأبعاده كافة، كل هذا أدى الى توقف الحوار في تشرين الثاني 2010 دون أن يلامس أي نتيجة تذكر.
تكررت التجربة مع إعلان بعبدا لتؤكد أن الحوار مع طهران لا يمكن أن يتم عبر وكلائها المحليين. فبعد أن توصل الفرقاء السياسيون بمن فيهم حزب الله في 11/6/2012 إلى “إعلان بعبدا” الذي نص في البند 12 منه على:”تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية… ما عدا ما يتعلّق بواجب الإلتزام بمقررات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة بما في ذلك حق اللاجئين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم”، وفي البند 13 على ” ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية السورية وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة وباستعمال لبنان مقراً أو ممراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين”، اندفعت طهران لإنقاذ النظام في سوريا من سقوط محتّم وأعطت لسلاح حزب الله دوراً إقليمياً جديداً أدّى إلى إنقلابه على “إعلان بعبدا” حيث ذهب الحزب للقتال في سوريا ولم يعدْ حتى الآن.
قد يكون في “إعلان بكين” الذي وقعته كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية في 10 آذار 2023 ما يكفي من العبر للتفاهم مع طهران أو سواها من موقع الدولة ذات السيادة. فبعد 7 سنوات من توقف العلاقات الدبلوماسية بينهما شابتها معارك طاحنة في اليمن واعتداءات قام بها الحوثيون على منشآت حيوية ومدنية داخل المملكة العربية السعودية، وبعد التحقق من عدم جدوى وجدية التدخلات الأميركية واللعب على التناقضات لدى الطرفين ، أعلنت الدولتان استئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016، بعد مفاوضات قادتها الصين. وقد تضمّن الإتفاق التأكيد على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما، وتفعيل إتفاقية التعاون الأمني بينهما، كما أعربتا مع الصين عن حرصهم على بذل كافة الجهود لتعزيز السلام والأمن الإقليمي والدولي.
في إعلان بعبدا ما يكفي من المسببات لإفشاله، وقد يكون أهمها غياب المفاوض المقابل أو تعذر دعوته، وفي إعلان بكين ما يكفي من العِبر ليس فقط لجهة جدوى التفاوض المباشر بل لجدوى البحث عن وسيط يقع في منتصف الطريق على تقاطع المصالح بين الطرفين. فهل يحظى اللبنانيون بوسيط نزيه لإرساء التفاهم مع طهران؟ وهل يمكن دعوة بكين لرعاية إعلان بعبدا بين لبنان وإيران؟