بات المشهد مملّاً بالفعل، لا بل إنه يبعث على القرف؛ العبث السياسي يتبدّى في أبشع ملامحه يوماً بعد يوم، ولبنان تحوّل الى ما يشبه «عصفورية» سياسية بكل ما للكلمة من معنى، تتأكد في كلّ حدث، وفي كل تحرّك سياسي أو اقتصادي او مالي او مدني او غير ذلك. واللبنانيون جميعهم شهود إثبات على هذا الجنون.
من أحداث 6 حزيران، مروراً بعملية التفاوض العبثية مع صندوق النقد الدولي وسيل التعاميم النقدية العاجزة عن ضبط الأسواق، تتصرف النخبة السياسية في لبنان كما لو أنّ البلد لا يزال ينعم بهامش كبير من ترف المقايضة في أروقة الحكم والمعارضة، التي تحوّلت إلى بازارات للمزايدات وتصفية حسابات على حساب الشعب اللبناني الرازح تحت نير الأزمة الاقتصادية – المالية وإرهاصات الخلاف السياسي الملامس لتخوم الجحيم.
من ظلال هذا العبث، فتحت الستارة على فصل جديد من الفيلم اللبناني المُمل في تكراره لمشهديات الكوميديا السوداء، التي تقترب من أن تصبح تراجيديا وطنية، وهو فصل الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية، والذي تأرجح بين تحدي عدم انعقاد، بعد خيار مكوّنات سياسية – طائفية مقاطعته، وبين تحدّي الانعقاد بمن حضر الذي من شأنه أن يتحوّل إلى استفزاز سياسي جديد من المؤكد أنّ البلد في غِنى عنه في هذه اللحظة السياسية المفصلية في تاريخه.
ثمّة من قال يوماً انّ الطريق إلى جهنم معبّد بالنيات الحسنة. اذا ما افترض المرء اليوم أنّ الدعوة التي أطلقها رئيس الجمهورية إلى الحوار نابعة من حسن نية، فإنّ الألغام السياسية التي تعترض طريق القوى السياسية إلى بعبدا تنذر بتفجير غير محسوب، خصوصاً حين يستحضر البعض عنوان الميثاقية، الذي تحوّل خلال السنوات الماضية إلى عصا لتعطيل كل شيء.
في الظاهر، تبدو الدعوة في محلها؛ لقد سبق أن اختارت القوى السياسية الجلوس حول طاولة الحوار منذ العام 2006، أي منذ باتت التحديات السياسية الداخلية والخارجية أكبر من قدرة لبنان على تحمّلها أو احتوائها.
في المبدأ، كان بإمكان أيّ متابع أن يتوقع أن تنتهي كل جلسة ببضع صور صحافية، ليس أكثر، خصوصاً أنّ اللبنانيين باتوا منذ نهاية ما كانت تسمّى حقبة الوصاية السورية، مختلفين على كل شيء، بعدما فقدوا «المايسترو» الذي أدار التناقضات اللبنانية بآليات غير طبيعية، استبعدت فيها مكوّنات أساسية من المشاركة السياسية، نفياً أو سجناً او تهميشاً.
ومع ذلك، فإنّ الصور الصحافية نفسها ربما تكون كافية لإشاعة نوع من الطمأنينة، أقله حول السلم الاهلي، الذي اختلّ، لبضع ساعات، في أحداث «سبت الفتنة» الأخير.
بهذا المعنى، كان يمكن لحوار بعبدا، وفق عنوان الدعوة اليه، أن يسهم ولو قليلاً في تنفيس الاحتقان القائم، وفتح كوّة ولو بحجم مجهري، يمكن البناء عليها للبحث في سبل الخروج من الأزمات المتلاحقة، وتحصين البلاد بالحد الأدنى من الوحدة الوطنية، أمام عواصف خارجية، آخرها قانون قيصر.
من حيث المبدأ، العنوان العريض لحوار بعبدا مثالي لجلوس الجميع حول طاولة الحوار: التصدي للفتنة الطائفية والمذهبية، وتعزيز السلم الأهلي، وحماية الاقتصاد المتداعي، وربما البحث في آليات معينة لمقاربة وطنية جامعة تقي لبنان من تداعيات قانون العقوبات الأميركية الجديد، الذي دخل حيّز التنفيذ الأسبوع الماضي.
ومع ذلك، فإنّ الألغام المزروعة مسبقاً على طريق بعبدا كانت كافية للتوقع بأنّ اللقاء الحواري لن ينعقد، أو في أفضل الأحوال، إن أصرّ رئيس الجمهورية على عقده بمَن حضر، فسيكون مجرّد «كلاكيت ثاني مرّة» للقاء الحواري السابق، في أيار الماضي، الذي كان عنوانه تأمين مظلة دعم وطنية لخطة الانقاذ الاقتصادي التي أقرّتها حكومة حسان دياب، وهو ما لم يتحقق، كما بات معلوماً، بغياب المكوّن السني، وفي طليعة أقطابه الرئيس سعد الحريري.
هذا الغياب، وبعيداً عن جدل الميثاقية، جعل لقاء بعبدا السابق مجرّد لحظة بروتوكولية لم تنتج المأمول منها، وإن كان بنية حسنة، وهو ما كان له انعكاس كبير على التخبّط السائد اليوم في تنفيذ الخطة المذكورة، وفي القلب منها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وما تخللها من فضيحة بكل المقاييس، تمثلت في الخلاف حتى على الأرقام الاقتصادية المجرّدة، التي تحوّلت، على خشبة مسرح العبث، إلى عنوان جديد للتجاذب السياسي.
هذا ما يجعل المخاوف مشروعة اليوم، من أن يؤدي انعقاد حوار بعبدا المرتقب، بصورته البروتوكولية نفسها، إلى تكرار لسابقته، ليس في الشكل فحسب، بل في التداعيات السياسية. فإذا كان عنوان «الحوار» السابق هو الخطة الاقتصادية قد ترجم فشل الحوار فيه مزيداً من الانهيار المالي، المتمثّل في الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار، وهو ما قاد إلى تلك الجلبة الفوضوية التي شهدتها البلاد خلال الأسبوعين الماضيين، فإنّ فشل «الحوار» الحالي بعنوانه الأكثر حساسية، أي «السلم الأهلي»، يخشى أن ينذر بخطر داهم قد يتعرّض له هذا السلم في مرحلة الذروة المرتقبة للصراع السياسي والنقطة المفصلية المرتقبة في الأزمة الاقتصادية، والتي ستتمحور حول عنصرين: إعلان فشل المفاوضات مع صندوق النقد، وبدء صدور أولى اللوائح التنفيذية لقرار قيصر في ما خَص لبنان.
الأخطر في الأمر، أن يؤدي فشل الحوار إلى تثبيت اصطفافات سياسية جديدة من شأنها أن تفتح معارك سياسية جديدة من المؤكد أنّ لبنان اليوم في غِنى عن جبهاتها، لأنه بالتأكيد ايضاً لا يملك اي قدرة على تحمّل صدماتها وتداعياتها.
وتداركاً لهذا الفشل، او للمقاطعة، ربما كان على رأس الدولة أن يستبق او يقرن دعوته الى الحوار بلعب دوره الطبيعي في تدوير الزوايا، أو بالأصَح اتخاذ خطوتين أساسيتين لإزاحة أية ألغام محتملة من طريق انعقاد الحوار:
الخطوة الاولى، الضغط على دائرة الموالين والحلفاء، قبل غيرهم، لوقف الحرب الكلامية المثيرة للتشنجات، وآخر جبهاتها كانت في الكلمة التي ألقاها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، بما تضمنته من فتح للنيران على أكثر من جبهة، قبل أيام قليلة من الموعد الافتراضي لحوار بعبدا.
الخطوة الثانية تتمثل في الاستجابة لهواجس رافضي دعوة الحوار، أو على الأقل سحب الذرائع التي قد تدفعهم إلى المقاطعة – بعيداً عن الاحكام المسبقة بشأن قرارهم المؤكد بالمقاطعة – وتحديداً في وضع جدول أعمال واضح، بدلاً من عناوين عريضة، بما يجعل «الحوار» منصة تشاركية لاتخاذ القرارات بدلاً من إخراجها بشكل مسبق بشكل يوحي بأنها مجرّد دعوة لـ”تلقي التعليمات”.
كل ما سبق يختصر بكلمتين بسيطتين: ترميم الثقة… ووحده رئيس الجمهورية قادر على القيام بهذه المهمة… والشرط الاساس ان تكون النيات الحسنة قائمة بالفعل.