شكلت الدعوة إلى مؤتمر الحوار في بعبدا فرصة لتصفية الحسابات السياسية، وصارت المشاركة تزان في ميزان الربح والخسارة بعيداً من مصلحة البلد المأزوم. من لبّى الدعوة له مصلحة، ومن يؤثر عدم تلبيتها له مصلحة أيضاً يغلّبها على أي اعتبارات أخرى. كان يمكن لرئيس مجلس النواب نبيه بري أن يكون من بين أصحاب المصالح أيضاً، ويعيد فتح دفاتر حساباته القديمة مع العهد فيعتذر عن عدم المشاركة في الحوار، لكنه أخذ على عاتقه مهمة إنجاح المؤتمر واستنفر طاقاته بالمونة على من يستطيع، ومني بالخسارة لأن بعض الاطراف وجدت في الجلوس إلى طاولة واحدة مع رئيس الحكومة حسان دياب إضفاء لشرعية سنية تحجبها عنه، فيما عاقبت أطراف أخرى بغيابها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل. أما رئيس الحكومة السابق سعد الحريري فتوزّعت حساباته بين رغبة بتلبية تمني بري عليه بحضور الحوار وبين ممتنع عن الحضور تماشياً مع الإجماع السني، بمعزل عن اعتبار قوى 8 آذار أنّ الحضور السني في الحوار مؤمن عبر “اللقاء التشاوري”.
لم يكن الحريري رافضاً لفكرة المشاركة حين فاتحه بري بالأمر، وطلب إعطاءه وقتاً قبل الخروج بجواب نهائي، ولدى استقباله جنبلاط سمع منه كلاماً مشجعاً ففضل أيضا التريّث في الاجابة. لكن حسابات جنبلاط هنا تختلف عن حسابات بري، فجنبلاط ليس عرّاب اللقاء ولا يعتبر نفسه معنياً بإنجاحه، كلّ ما في الامر انه تلقى دعوة لمؤتمر عنوانه وأد الفتنة التي كان من اوائل المبادرين لتطويقها. أما رئيس المجلس النيابي فكان يرى أن من بين أهم اهداف انعقاد المؤتمر تأمين لقاء يجمع بين عون والحريري، وقد سعى للقاء يجمعهما قبيل المؤتمر، غير أن رؤساء الحكومات السابقين حذّروا الحريري من أن يكون الأمر من باب المناورة، وأن يعمد عون فور اكتمال الحضور إلى ترؤس الاجتماع من دون أن يفسح المجال لمثل هذا اللقاء.
تختلف الغايات هنا بين بري ورؤساء الحكومات السابقين، فبري لا يوفر فرصة لتليين الأجواء بين الحريري والعهد وفي نيته عودة الحريري في أقرب فرصة الى رئاسة الحكومة، في ظل فشل حكومة حسان دياب التي تحولت الى حكومة تصريف اعمال أو أدنى. أمل بري بحضور الحريري لم ينقطع بعد وهو يمضي في محاولاته رغم قلة المتفائلين بخروج الحريري عن إجماع رؤساء الحكومات، ليس اكراماً لهم فحسب، وانما لحسابات سعودية – أميركية لا يمكن تجاوزها بعد كل ما حصل. لا يمكن للحريري ان يكون خارج الحالة السنية في مثل الوضع السيئ والمعقد الذي تشهده الساحة السنية المنقسمة على ذاتها، ما يجعله بحاجة الى غطاء يؤمنه له رؤساء الحكومات، الذين لكل منهم مغزى للمقاطعة مختلف عن الآخر ويعرفون ضمناً ان تلبية الحريري الدعوة ستمثل الغطاء السياسي المطلوب.
في المقابل يمكن فهم المقاطعة كرد على تناول الحكومات السابقة عند كل مفترق سياسي من رئيس الحكومة حسان دياب وخلال جلسات مجلس الوزراء. مكمن الخطأ هنا هو في السير بالهجوم على الخصوم السياسيين ثم دعوتهم للمشاركة، وهذا لا يتعلق برؤساء الحكومات حصراً بل بالكثير من المعالجات حيث يتم تركيز الهجوم على زعماء سياسيين وأحزاب، واتهامهم بالمباشر ثم يصار الى الاستعانة بهم حين تقع الواقعة.
تقول رواية البعض عن قرار مقاطعة رؤساء الحكومات السابقين أنّ هذا القرار اتخذ منذ البداية وتم الاتفاق على ان يكونوا فريقاً واحداً ليسحب غيابهم الميثاقية السياسية عن اللقاء وكان أمامهم خياران: رفض المشاركة في لقاء تحت راية ميشال عون الذي يمارس بحقهم هجوماً سياسياً مستمراً، لا سيما بعد طريقة التعاطي مع خروج الحريري من الحكومة، أو المشاركة إكراماً لبري الذي يمثل بالنسبة اليهم منظومة الامان للاجتماع، لذلك زار ميقاتي عين التينة مقدّماً تبريره لعدم الحضور مشيداً بدور بري الوطني. سبب آخر جوهري للمقاطعة وهو امتناعهم عن الجلوس إلى طاولة تجمعهم برئيس الحكومة حسان دياب ما يعد بمثابة إضفاء شرعية سنية على رئاسته للحكومة.وتقول الرواية إن المقاطعة كانت خياراً جامعاً للفريق المعارض للعهد، وكان هناك اتفاق يقضي أن يصدر عن الرئيسين السابقين للجمهورية أمين الجميل وميشال سليمان ورؤساء الحكومات السابقين بيان مشترك بالمقاطعة، لولا رفض الحريري وميقاتي، وهو الأمر الذي أغضب سليمان والجميل فأعلن الاول مشاركته فيما تمنى الثاني تأجيل الحوار.في المقابل يوجد من لم يقتنع بتبرير رؤساء الحكومات رغم أهمية ما ورد في بيانهم، إذ يضعهم هذا الغياب خارج الاجماع الوطني خصوصاً وأن المؤتمر سيشهد مشاركة شخصيات وطنية في مقدمها جنبلاط، هذا فضلاً عن مصلحة للحريري في وجوده خارج أي اصطفاف وطني في لحظة مصيرية من عمر البلد وهو زعيم تيار سياسي ورئيس كتلة نيابية وازنة، وله من الحيثية ما يجعل حضوره مختلفاً عن حضور آخرين. لرؤساء الحكومات السابقين تبرير يخفف من وقع قرارهم حيث ينقل عن احدهم قوله ان القرار ليس المقاطعة وانما امتناع عن المشاركة لأسباب عبّر عنها البيان.
لكن سواء شارك الحريري أو اعتذر، فإن مؤتمر الحوار في مأزق. لا انعقاده يمنع حقيقة الانقسام العمودي الحاد في البلد ولا إرجاؤه يغير في الوقائع، اللهم إلا إذا تضمن مبادرة ما انقاذية. فهل يفعل؟