الحوار تحت ضغط الإنهيار لا ينفع وطوابير الذلّ أمام الصرّافين تفضحُ فشل «حلول» الحكومة
في الطريق إلى حوار بعبدا يوم الخميس المقبل، وفي ظل تعاظم الأزمات الحياتية والمعيشية والنقدية والاقتصادية والمالية مع استمرار التباين على جبهة الحكومة ومكوناتها بما يصعّب المعالجات أو وقف الانهيار بالحدّ الأدنى، يبدو أن بعضاً من الطبقة السياسية يستسيغ اللجوء للكذب واصطناع وقائع غير حقيقية للتغطية على حقيقة الأوضاع السوداوية والكارثية، سواء لناحية تفخيخ الأجواء السياسية عشية الحوار الموعود لتعطيله ومن ثمّ تحميل أيّ متخلفٍ عن المشاركة فيه مسؤولية فشله، أو عبر توزيع الاتهامات في كل اتجاه لخلط الأوراق في لحظة داخلية وإقليمية دقيقة. وكل ذلك يجعل المشهد الداخلي يراوح بين ناري: السلطة المفلسة والفاشلة، والانتفاضة المربكة والمضطهدة.
كيف يمكن طلبُ غطاءٍ سنيّ لسلطة أمعنت وتمعن بتهميش هذا المكوّن الوطني، وتتقصّد استفزازه عند كل منعطف
لعل المشهد الأكثر تعبيراً عما وصلت إليه الأوضاع في لبنان، هو طوابير الذل والاستعباد والتدجين والاحتيال والتذاكي والتلاعب أمام محلات الصرافة بسبب قرار تحوم حوله الكثير الكثير من الشكوك من دون أن يحرك أحدٌ من الأطراف السياسية، موالاة ومعارضة، ساكناً لفضحه ورفض إذلال المواطنين بعد نهب أموالهم ومدخراتهم؟!
النوايا وحدها لا تكفي
وبعيداً عن الأجواء والتسريبات التي يجري تعميمها حول حوار بعبدا وغاياته، فإن طاولة الحوار تهدفُ، في المعلن، إلى تقديم مشهد وطني جامع من خلال النقاش في القضايا الوطنية الكبرى، ويخلق أرضية صلبة لمواكبة تطورات الداخل لتعزيز السلم ومنع الفتنة ولمواجهة ضغوطات الخارج، وهي كثيرة، من الأمن المهزوز إلى الحوار مع صندوق النقد وصولاً إلى قانون قيصر وتداعياته، فإن دون هذه النوايا عقبات عدّة تحول دون الوصول إلى ما يرجوه عرّابو هذا الحوار من أهداف عطفاً على سوء الأداء الداخلي والفشل في معالجة الملفات أو تهميشها أو الكيدية التي تطبع كثيراً من القرارات، لا بل يرسم علامات استفهام كبيرة حول الغاية من هذا الطرح وتوقيته وأهدافه القريبة والبعيدة؟
فالعهد وحكومته يمعنان في خطاب القسمة وتعزيز التباينات والتضييق على الحريات، لا العكس. إذ كيف يستقيم كلام رئيس الحكومة حسّان دياب عن طبقة سياسية فاسدة لا تشبهه، وحديثه الشهير عن الانقلاب مع سياسة طلب الحوار لتأمين غطاء وطني للسلطة الحاكمة؟ وكيف يمكن للأطراف السياسية المعارضة للحكومة أن تساعد سلطةً تبدو في كل قراراتها منقسمة على نفسها قبل أن تختلف مع معارضيها، من اعتماد سياسة التوصيف بدل الحل، إلى أرقام الخسائر في المالية العامة، إلى تعيينات المحاصصة والتراجع عن قرارات حكومية، إلى مسألة التشكيلات القضائية ونتائج مباريات مجلس الخدمة المدنية وغيرها الكثير، مضافاً إلى ذلك غياب الرؤية للحل وترك المسألة لأطراف تمعن في ضرب صورة لبنان ونظامه السياسي والاقتصادي وموقعه العربي والدولي، وما تبقى من مصداقية له أمام العالم.
وكيف يمكن أيضاً طلب غطاءٍ سنيّ لسلطة أمعنت وتمعن بتهميش هذا المكوّن الوطني، وتتقصّد استفزازه عند كل منعطف، سواء من خلال إهمال تعيينات كان يجب ملؤها من سنين أو غضّ الطرف عن غزوات الحقد والتخريب في بيروت وطرابلس؟
حتى الآن تتقاطع كل المعطيات على أن اللقاء لن يكون جامعاً، وستشوبه نقائص ميثاقية وطائفية، تضعف من فاعليته، وربما تعزّز الأيام القليلة المقبلة فرضية الغائه، من دون أن يلغي كل ذلك حقيقة أو الأوضاع العامة شديدة الخطورة ومفتوحة على كل الاحتمالات.
باسيل الزاهد بالرئاسة!
إزاء كل ذلك، جاء كلام رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في مؤتمره الصحافي أول من أمس، البعيد كل البعد عن أجواء التهدئة لناحية تكرار سياسة توزيع الاتهامات وتبرئة الذات، وخصوصاً إعلانه الزهد برئاسة الجمهورية وصراعاتها ومعاركها.
فمقاربة باسيل، مثلاً، للعمل الذي أنجزته لجنة المال والموازنة حيال مسألة الخسائر المالية لناحية التناقض مع ما تذهب إليه الحكومة، اذ هدد بأن «خسارة لبنان لخيار الصندوق هي خسارة لورقة او لإحدى أهم الخيارات التي يملكها» في وقت لم يعلن لا صندوق النقد ولا غيره فشل أو تعثر المفاوضات مع لبنان، تثير التساؤل عن خلفيات هذا الموقف وغاياته؛ هل الاتفاق مع صندوق النقد، وأول شروطه الإصلاح ومحاربة الفساد أي وقف مزاريب الهدر في قطاعات الدولة (والكهرباء في مقدمها) التي تذهب لجيوب السياسيين، يزعج طرفاً او أطرافاً معينة، وبالتالي بدأت معزوفة التصويب عليه؟
الأرقام ليست وجهات نظر
وإذا كانت الأرقامُ.. أرقاماً ولا تحتمل الاختلاف، فإن التباينات المليارية في تقدير الخسائر بين أكثر من طرف حكومي ومالي ومصرفي تكشف الذهنية الراسخة التي تُدير لبنان لناحية عدم اعتماد الطرق المستقيمة والعلمية والشفافة في مقاربة الأمور، لدرجة تبادل الاتهامات بتزوير الأرقام وصولاً إلى استقالة من لا يتحمل عبثية ما يجري على مرآى ومسمع المؤسسات الدولية.
للتذكير، فإن لجنة المال والموازنة النيابية سبق أن أعلنت «الانتصار» بهامش 300 % على أرقام خطة الحكومة ووزارة ماليتها لجهة حجم الخسائر، والتي هي بدورها كانت تتباين بشكل كبير مع أرقام مصرف لبنان، وجميعهم متباينون عن أرقام جمعية المصارف؟! وما يزيد في الريبة أن من يحاور صندوق النقد هو الحكومة وليس مجلس النواب!! هذا هو سلوك السلطة في إدارة الشأن العام منذ سنين، وهذا الابداع اللبناني يذكّر بأرقام سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت لغايات سياسية وشعبوية وزبائنية سرعان ما تبين أنها كارثية على مالية الدولة بعدما تبين أن تكلفتها المقدرة أكبر بأضعاف مما قدّرته مخيلة من صاغ مشروعها آنذاك!
ثم هل صحيح ما يتردد عن أن صندوق النقد أنجز تصوره الأولي عن حقيقة الأوضاع المالية والاقتصادية والنقدية في لبنان، وأنه يمتلك تصوراً لأرقام الخسائر والموجودات والاحتياطي مغايرة وتختلف عن كل الأرقام التي قدمت له (أرقام خطة الحكومة تقول إن الخسائر مقدرة بـ241 ألف مليار ليرة أما تقديرات مجلس النواب فتذهب إلى إن الأرقام أقل من ذلك بكثير، في وقت يتردد أن صندوق النقد يقدّر الخسائر بأكثر من ذلك بكثير!!)؟
أمام هذا الواقع الهزلي وحفلات الردح والاتهام؛ هل يمكن للحظة التنبؤ بنجاح أي حوار، مهما كانت غاياته وأهدافه؟ ألا يكفي التباين والانقسام على خط السلطة لإقناع أيّ طرف سياسي متردد بعدم جدوى الحوار، ويعزز فَرَضية أن مجرد «صورة» اللقاء ستستخدم للتغطية على الفشل أو للتمهيد للانهيار الكامل أو لإصدار براءات ذمة لأطراف وشخصيات أمام المجتمع الدولي المنزعج لدرجة اليأس مما يجري في لبنان؟
أغلب الظن أن المجتمع الدولي يعرف أن كلام الطبقة السياسية المتكرر والممجوج عن الإصلاح لا يعدو كونه مادة للاستهلاك، وأنها ترفض الإصلاح لأنه يعني، ببساطة، القضاء على امتيازاتها وعلى نظام الزبائنية والمحاصصة والاحتكار ونهب المال العام.
ألا يجب أن تدفع هذه التطورات مكونات الانتفاضة الواعية لخطورة الموقف، وترك التردد والتشظّي والإسراع في بلورة مشروع تغييري متكامل، متعدد البنود والمراحل والاحتمالات، لمواكبة ما يجري من تطورات متسارعة، والضغط، بالتعاون مع كل الحريصين على بقاء لبنان، للولوج إلى مرحلة جديدة توقف النزف وتعيد تشكيل المشهد الوطني على قاعدة احترام السيادة أولاً، وإعادة تكوين السلطات الدستورية، ثم المضي بالإصلاحات وتحرير الإدارة من الفساد؟