يعتقد مراقبون انّ كل ما يتصل بـ»اللقاء الوطني» الذي عقد أمس الأول في القصر الجمهوري انتهى قبل ان يجف حبر بيانه الختامي. فترددات المواقف التي واكبته تراجعت الى الحد الأدنى، ما يعزّز شرخاً طويل المدى ينمو تحت طبقة من الهموم المعيشية التي تقدمت على كل ما هو مطروح. وهو ما يرفضه رئيس الجمهورية الذي يريد أن يؤسس اللقاء لمرحلة جديدة، فما الذي قصده؟
على وقع الانقسام الذي تسبب به «اللقاء الوطني الجامع» الذي عقد قبل يومين بعيداً من الفرز السابق الذي كان قائماً بين 8 و14 آذار بعدما تداخلت المواقف وانبأت الإصطافافات بمعادلات جديدة غير ثابتة ومكتملة وقد يكون بعضها غير منسّق. ورغم وجوه الاختلاف في الأسباب فقد التقى الجميع على طلب التأجيل او الاعتذار عن المشاركة في اللقاء.
بداية، أمّا وقد عقد اللقاء كما اراده رئيس الجمهورية وبمَن حضر، فقد توقف المراقبون امام بعض الملاحظات. فلولا مشاركة الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال سليمان لكان مجرد لقاء الجبهة الواحدة من دون أي «غريب». وتحديداً من اهل المعارضة بنوعيها الثابتة والمتحوّلة والمتقلبة وفق منطق «على القطعة». ولولا مشاركة سليمان لكان الغائبون عن اللقاء 10 والمشاركون فيه 10 ايضاً. ولو غاب من يمثّل رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» لغلبَ الغائبون الحاضرون. ولذلك كانت صفة «الجامع» من اولى ضحايا اللقاء قبل ان يتحول نصف لقاء وطني جامعاً اهل البيت.
هذا في الشكل، اما في المضمون فقد عبرت اكثرية المتكلمين فيه عن حجم الأزمة بمختلف وجوهها من دون اجتراح ايّ حل خلّاق. فثبت عندها انّ العجز في مواجهة اي من الاستحقاقات الداهمة او تلك المرتقبة ما زال سائداً بقوة. وهو الى بقائه عنواناً للمرحلة المقبلة بقي متقدماً كل الانجازات الوهمية التي لا نقاش ولا تشكيك فيها. وما كان لافتاً ان يشهد شاهد من اهل البيت، فقد اعترف رئيس الحكومة حسان دياب وللمرة الاولى من دون شكوى ممّن يعرقله او يسعى الى الانقلاب، «أنّ اللبنانيين لا يتوقعون من هذا اللقاء نتائج مثمرة. وهو في نظرهم كسابقاته، وبعده سيكون كما قبله، وربما أسوأ».
امام هذه المعطيات الواقعية، يرفض بعض من هم في السلطة في تقييمهم لِما جرى، القراءة السلبية على أي معطى آخر. فاللقاء في نظرهم لم يكن فاشلاً طالما انّ المشاركين فيه والمُتغيّبين لا يشككون في إجماعهم على رفض كل ما يؤدي الى الفتنة المذهبية والعودة بالبلاد الى ما كانت عليه قبل تحقيق الحد الأدنى من السلم الأهلي، ونَبذ ما يؤدي بالعودة الى تلك الحقبة السوداء من تاريخهم، على رغم ما ارتسَمت أمامهم من صور سلبية لِما شهدته مناطق بربور والطريق الجديدة وما بين الشيّاح وعين الرمانة على طريق صيدا القديمة كما في طرابلس.
وفي المقابل، وعلى رغم مما أعطى اللقاء من انطباع بوجود خطر داهم على السلم الاهلي، فقد رفض مقاطعوه إعطاء الأهمية لهذه الناحية، وإن غاب بعضهم عن اللقاء فإنما عن اقتناع بأنّ ما هو مطروح ليس قائماً وما هو سوى ذريعة. فلم يكن الخلاف بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» وحركة «أمل» وحلفائهم من جهة وأحزاب الكتائب و»القوات اللبنانية» و»المردة» وتيار «المستقبل» ورؤساء الحكومات السابقين من جهة أخرى، ليلتقوا على طاولة القصر وإجراء المصالحة في ما بينهم لنَبذ ما جرى والتوافق على عدم تكراره. وفي اعتقادهم صراحة انهم لم يكونوا من استفَزّوا من نادوا في شوارع بيروت في تظاهراتهم «شيعة شيعة» ولم يستفزّوا احداً ليشتموا «عائشة» زوجة النبي، والمَس بـ»العذراء مريم» واستفزاز الشارع الآخر. كما استندوا الى عشرات التحقيقات التي أجريت مع الموقوفين التي بَيّنت انّ بعضاً منهم من موالين ومشاركين في السلطة وتمثّلوا على الطاولة.
وما زاد في الطين بلة انّ مجموعة من التصريحات أوحَت بذلك عندما كشف قادة من «حزب الله» و»أمل» عن تعليمات أعطيت لِلَجم شبابهم المتحمّس والمتهور القاطنين في مناطق حساسة طوّقت بعدما ارتبطت بجغرافيتها ببعض الهزّات الامنية لمَنعهم من التحرك مرة أخرى وخصوصاً بعد احداث 6 و12 حزيران الجاري. ويمكن ان يفهم في الإطار عينه قول رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي تحدث في آخر إطلالة له السبت الماضي عن المجهود الذي يبذله للَجم شباب التيار المنتفض، و»ضبط النفس» ومنعهم من التحرك في مواجهة آخرين لم يحدّد من هم.
ولا تقف قراءة المقاطعين عند هذا الحد، فقد لفت معظمهم الى انّ كل ما جرى كان مُخططاً له بهدف توجيه الانظار الى مكان آخر بعكس توجهات الانتفاضة منذ 17 تشرين العام الماضي، ولمنع تجددها كما كان مقرراً في 6 حزيران. وذلك من أجل تشويه اهدافها وتهميشها وشيطنة حراكها بعدما فعلت جائحة كورونا ما فعلته بها وحالت دون ان تُنجز بعضاً من اهدافها بعدما بلغت مرمى التحقيق. فلعبت دور المارد الذي استيقظ فجأة وتمكّن من تغيير منحاها وتخفيف انعكاساتها السلبية، وربما عاوَن أحزاب السلطة على الاحتفاظ بمحازبيهم بعدما كانوا على قاب قوسين او ادنى من الالتحاق بها، بعدما وحّدهم غلاء الاسعار واقتراب الجوع من ابواب بيوت نسبة كبيرة منهم وفقدان العملات الصعبة وما بلغته البطالة التي اقتربت من أعلى مستوياتها.
وعلى رغم من كل هذه الصورة السوداوية، يصرّ القريبون من رئيس الجمهورية على القول انّ اللقاء حقّق شيئاً مما أراده بإصراره عليه في موعده. فقد أسّس لقاعدة يمكن الإنطلاق منها للبحث في الملفات المعقدة والصعبة التي زادت منها حدة الأزمة الاقتصادية والإجتماعية. فالصيغة الحالية ليست ملائمة لِما يعيشه البلد اليوم، ولا بد من حوار يعيد النظر بها.
ومن دون تحديد الآلية المقبلة فقد ردّ القريبون من بعبدا على من أخذ عليهم بتجاهل البيان الختامي الاستراتيجية الدفاعية والأمور الدستورية الأخرى، فقالوا انها لا تدخل تحت العناوين الأمنية التي اراد اللقاء تثبيتها ليكون الحوار المقبل مَعنياً بكل هذه الملفات، وإن كان ايّ من الأطراف المقاطعة لديه فكرة او عنوان آخر سيكون المجال مفتوحاً لطرحه.
وبناء على ما تقدم، وما ظهر من خلاف بين الموالين للحكم والمعارضة حول مفهوم السيادة والنأي بالنفس والاستراتيجية الدفاعية، فإنّ التطلّع الى فصول جديدة من الحوار صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً. وأخطر الدلالات يكمن في حجم الشرخ الذي بات قائماً بين معظم المكونات بما يؤدي إلى احتمال أن يبقى مُستعراً حتى نهاية العهد الذي اقترب من ثلثه الأخير. فليس في الأفق من مؤشّر على أي خطوة توحي بالعكس، فافتتاح المعركة الرئاسية تزامناً مع المتغيّرات الكبرى في المنطقة يُنبىء بالأسوأ، وهو ما ينعكس على المقبل من الايام، فليستعد اللبنانيون له.