حوار الغرائز الطائفية والمذهبية لا يحلُّ أزمة ولا ينقذ وطناً من كبوته
بدلاً من ان يتناول لقاء بعبدا التشاوري كما سماه دعاته حيناً أو الحواري حيناً آخر، مسببات إشعال الفتنة واستهداف السلم الأهلي المعروفة للقاصي الداني وينكب على معالجتها ووضع الحلول الجذرية لمنع تكرار محاولات اللعب على اوتارها من جديد، تجاهل هذه المسببات وأهمها استفحال الأزمة المالية والاقتصادية التي باتت تداعياتها السلبية والضاغطة على أكثرية الشعب اللبناني تُهدّد بتفاعلات خطيرة وارتدادات لا يمكن التكهن بنتائجها على لبنان كلّه، فيما يبقى التغاضي عن وجود سلاح «حزب الله» بمعزل عن الضوابط الشرعية للدولة وبعيداً عن المحاسبة من الأسباب الرئيسية لعدم انتظام مسيرة الدولة واستباحة السلطة والمقدرات المالية وعاملاً من عوامل عدم الاستقرار وجرجرة البلاد إلى نزاعات داخلية وخارجية غير محسوبة، بينما يتداخل بين السببين الرئيسيين، سبب إضافي مهم يستغل دعاته وعلى رأسهم رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل وفريقه السياسي وجود الرئيس ميشال عون في سدة الرئاسة لإعادة ما يسمونها مجد الصلاحيات الرئاسية الضائع ولو كان على أنقاض لبنان كلّه.
تمّ إبراز المخاوف من تجدد الفتنة ومحاولات المس بالسلم الأهلي كاطار عام للقاء وعنواناً لم يقنع معظم الأطراف السياسيين وحتى الشعب اللبناني بمعظمه، باعتبار ان الطرفين الأساسيين المشاركين باللقاء، «حزب الله» و«التيار العوني» هما المعنيين بالتسبب بالاهتزازات الأمنية والفوضى السياسية والتعثر الاقتصادي، في حين ان باقي الأطراف الأخرى ليست متورطة أو تتجنب على الدوام الانغماس بهذه الأساليب العنفية التي جرّت البلاد إلى الفوضى وعدم الاستقرار مراراً في السنوات العشرين المنصرمة.
فلو كان الهدف الحقيقي للقاء كما ورد في عناوين ومضمون الدعوات الموجهة للمشاركين وهو منع إشعال الفتنة المذهبية والطائفية والحفاظ على السلم الأهلي، لكان من الأجدى الأخذ بعين الاعتبار المسببات المذكورة التي تسهم بذلك، والعمل الجدي الهادئ بين كل الأطراف بالسلطة وخارجها بعيداً عن التشنج والاتهامات والتخوين للمساهمة معاً في وضع مقترحات الحلول المطلوبة، أكان للأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان أو موضوع سلاح «حزب الله» أو الجنوح المتواصل لرئيس «التيار العوني» للتصادم مع مختلف الأطراف والطوائف الأخرى تحت مسميات وعناوين خلافية، طائفية حيناً وسياسية حيناً آخر، لكان شكل اللقاء مختلفاً عمّا حصل والمشاركين فيه من أكثرية أو بل من جميع الأطراف الوازنة والفاعلة في الساحة السياسية كلها، في حين كانت نتائجه مغايرة كلياً عمّا صدر وتأثيره واعداً ومبشراً في استنباط الحلول اللازمة وإخراج لبنان من ازمته.
بدلاً من ان يتناول لقاء بعبدا التشاوري مسببات إشعال الفتنة واستهداف السلم الأهلي تجاهل الأسباب واستفحال الأزمة المالية والاقتصادية
اما ما حصل قد حصل، فلم يعد بالإمكان تدارك تداعياته ومؤثراته السلبية، ليس على الصعيد المالي والاقتصادي فحسب، بل أبعد من ذلك بكثير، لا سيما ان البيان الختامي للقاء الذي تصدّر في مقدماته العناوين الرئيسية والمحصورة بالحفاظ على الأمن والاستقرار ونبذ كل محاولات إثارة الفتنة وهي مطالب يحرص عليها كل الأطراف الأساسيين المعارضين علناً ودون مواربة، فإن حشر الدعوة لتطوير النظام في البيان الختامي يطرح تساؤلات واستفسارات عديدة عن المغزى الحقيقي والهدف المرجو منه في هذا الظرف الذي تستفحل فيه الأزمة المعقدة داخلياً ويتفاعل فيه الخلاف السياسي أكثر من أي وقت مضى، في حين يتطلب الوضع العام تهدئة التباينات وتخفيف التشنج السياسي إلى أدنى مستوى ممكن.
وهذه المرة تجاوز طرح موضوع تطوير النظام الإطار الفضفاض والشكلي للقاء بعبدا، وبرزت في ثناياه بوضوح نزعات الجنوح الطائفي والمذهبي إلى تغيير النظام المرتكز على اتفاق الطائف علناً هذه المرة ولو بعبارة مقتضبة ومجملة ولكن في مضمونها وابعادها تكشف النوازع الحقيقية والنوايا التي تضمرها نفوس ومكامن الداعين والداعمين الأساسيين لتغيير النظام تحت عنوان إعادة تطويره، بعد ان كانت كل الدعوات السابقة لهذا التغيير تتم بشكل غير مباشر، في حين كانت دعوة أحد رجال الدين المؤيدين لحزب الله مؤخراً لهذا التغيير أبلغ دليل على المطالبة بهذا التغيير مباشرة.
مهما يكن فإن طرح تغيير النظام السياسي تحت أي مسمى كان، ولا سيما من قبل «حزب الله» مستفيداً من تملكه للسلاح أكان شعاراً طائفياً أو مذهبياً ويتناغم معه الفريق الرئاسي الذي يُخفِ طموحه لهذا التعديل تحت شعار إعادة «الصلاحيات الرئاسية» أو «حقوق المسيحيين» وما شابه من دعوات أدّت إلى تباينات واستفزازات وتشنجات طائفية ومذهبية طوال السنوات الثلاث الماضية من ولاية العهد الرئاسي، قد يزيد من حدة الانقسامات السياسية التي بلغت اوجها في الوقت الحاضر ضد سياسة رئيس الجمهورية وممارسات «حزب الله» في الوقت ذاته، وقد تكون مرشحة للتصاعد أكثر في حال تقدّم مطلب «تغيير النظام» على حل الأزمة المالية والنقدية، باعتبار ان مثل هذا الطرح الخلافي لا يتم تحت ضغط الغرائز الطائفية والمذهبية المتباينة وبقوة الأمر الواقع، بل يتطلب البحث بتطوير النظام فعلاً اجواءً مؤاتية أكثر مما هي حالياً، والا فإن الامعان بهذا الطرح يعني الدخول بالمجهول.