إن صَفت النيّات بما انتهى اليه اللقاء السابع عشر بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري واتفقا على تشكيل الحكومة في مهلة الايام الاربعة، ساد الاعتقاد انّ خطاب الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله قد وضع حداً لذلك، وجعل مهمتهما «مغامرة» وإلا فإنّ «المراوغة» هي التي فرضت موعد اللقاء الثامن عشر. فما الذي تعنيه هذه المعادلة؟
شاء من شاء وأبى من أبى، فإنّ التشكيك السياسي والديبلوماسي والشعبي بمواقف المسؤولين الكبار وأركان السلطة بات القاعدة الثابتة، وانّ الإعتقاد بمدى التزامهم بما يقولون ويفعلون بات هو الاستثناء. فصدقيتهم على المحك وباتت في اكثر الاحيان في أدنى المراتب التي تحتسب فيها مثل هذه المواصفات. فالتجارب السابقة اكدت المؤكد، وعززت هذه النظرية بما لا يرقى اليها اي شك.
وان عاد بعض المراقبين بالزمن الى الوراء لتبرير هذه المعادلة، فقد اكتفوا بالإشارة الى ما حفلت به محطات عدة من التكاذب وعمليات نصب المكائد والمقالب والسيناريوهات التي توحي بالتنكّر لكثير من الحقائق والسعي الى تحريف البعض منها ونَفي أخرى على «عينك يا تاجر». وقال هؤلاء ان العودة بالذاكرة القصيرة المدى الى ما رافق انفجار المرفأ من ظروف مأسوية أدّت الى استقالة حكومة الرئيس حسان دياب في 10 آب وما تلاها عند تكليف السفير مصطفى اديب مهمة التأليف في 1 ايلول، واعتذاره عن إتمام المهمة في 26 منه، الى ان أُعيد تكليف الحريري المهمة عينها في 22 تشرين الاول الماضي. فكلها محطات عززت فقدان الثقة بكثير ممّا يقال، والذي يتناقض مع الوقائع الى حدود غير مسبوقة في اي دولة في العالم.
وإن اضاف هؤلاء اسباباً اخرى توحي باستمرار فقدان الثقة بأركان السلطة، فإنهم يستذكرون كل ما رافق اللقاءات الـ16 التي شهدها قصر بعبدا بين عون والحريري التي فاضت منها رائحة الروايات المتناقضة، فلم يتّفقا يوماً على حدث ما شهده اي لقاء عُقِد بينهما، ولم يتفقا على رواية حاولا تسويقها لدى اللبنانيين والديبلوماسيين على حد سواء. ولولا موجات التوتر التي سادت بينهما لفترات متقطعة، لَما اطلع اللبنانيون على بعض ما شهدته هذه اللقاءات من عروض وسيناريوهات وصفقات تجاوزت عمليات توزيع الحقائب وإسقاط الاسماء عليها مناصفة بين المسلمين والمسيحيين الى محاولة التفاهم على المرحلة المقبلة. ولكنها محطات نضحَت بحجم من الانكار الذي لجأ اليه البعض لمجموعة من الوثائق والمستندات التي ابرزها الطرفان، وصولاً الى محاولة محو ما جاء به بعض البيانات الرسمية وما حفلت به وسائط التواصل الإجتماعي من رسائل قصيرة ومجموعة المقالات والتصريحات التي اطلقت او سُرّبت بالصوت والصورة عشية الاستشارات النيابية الملزمة وفي اوقات متفاوتة حتى اللقاء الـ15 بينهما.
لا تتوقف الأمور عند هذه المحطات، إلا لتعزز الشكوك في مهلة الايام الاربعة التي انتهى اليها اللقاء السابع عشر بين عون والحريري، ففيه ما ينضح بكثير مما سبق. فالحديث عن طريقة ولادة هذه المهلة تناقضت بين روايتي بعبدا و»بيت الوسط» الى درجة قيل انهما عادا الى نقطة الصفر. فلماذا كان الوعد الذي اطلقه الحريري من على باب القصر، متجاوزاً المواجهة التي وقعت بين بعبدا و»بيت الوسط» عشية اللقاء والدعوات المتبادلة الى الاعتذار عن التكليف وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة تقلّص ولاية رئيس الجمهورية، وأوحى بأجواء ايجابية وكأنّ الإثنين المقبل سيشهد الولادة المنتظرة للحكومة العتيدة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وعند البحث في طريقة ولادة المهلة الجديدة، قالت مصادر قصر بعبدا انها أرجأت بياناً رسمياً كان سيصدر عقب اللقاء أمس الأول لاعتباره لقاء مفصلياً، قبل ان تُرجئه الى ما بعد اللقاء الثامن عشر الإثنين المقبل، لتعطيه الاهمية عندما سيعود الحريري بالأجوبة عن الاسئلة التي طرحها رئيس الجمهورية حول التشكيلة الحكومية والصيغة المقترحة من 18 او 20 وزيراً ولطريقة توزيع بعض الحقائب والاسماء.
تزامناً، قالت اوساط «بيت الوسط» عندما سُئلت عن طريقة ولادة مهلة الايام الاربعة، انّ رئيس الجمهورية هو مَن حَدّد هذا اللقاء وأمهَل الحريري 4 ايام ليجيب عن مجموعة الاسئلة التي طرحها عليه حول الصيغة الحكومية المقترحة منه بحسب ما يقول الدستور من 18 وزيراً، والتي سلمه إيّاها في 9 من كانون الأول الماضي وفق لائحة اسمية تسلمها من عون بالاسماء المقترحة لضمّها اليها في اللقاء الثاني بينهما.
انّ مجرد الإيحاء ان كلّاً من الرجلين ينتظر اجوبة الآخر يوم الاثنين المقبل، أعاد الى الأذهان موجات الاتهامات والإهانات المتبادلة بينهما، كأنّ اي اتفاق جديد لم يُنجز بعد، الى أن جاء خطاب الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بعد 3 ساعات على اللقاء ليسبغ عليه مسحة التشاؤم. فقد كان نصرالله واضحاً في تجاهل ما اعلن عنه عقب اللقاء، وربما امتدت ترددات موقفه الى إسقاط كثير من المبادرات الخارجية والداخلية التي طرحت وكأنها لم تكن.
ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل التي يحتملها خطاب السيد نصرالله، يمكن التوقف عند البعض منها، والتي عطّلت تفاهماً حكومياً محتملاً، فأضاف الى شروط عون أخرى ونَسف تفاهمات يعتقد البعض انها ما زالت قائمة. فحديثه عن حكومة تكنو سياسية أنهى ما تبقّى من «المبادرة الفرنسية» التي قالت بـ»حكومة مهمة» من المستقلين الاختصاصيين وخالية من «الممثلين الحزبيين». وعندما تحدث عن سبل معالجة الحكومة للوضع النقدي، إستبعد اي مفاوضات محتملة مع صندوق النقد الدولي وحرّم عليها التوجه الى مصادر التمويل الخارجية وربما حظر التعاطي مع الدول والحكومات والمؤسسات المانحة إذ لا حاجة لها. إن كان في الامكان التوجّه شرقاً او الى اي جهة أخرى لا تمتلك قدرات هذه الدول الغربية والعربية والخليجية منها خصوصاً.
وعليه، يبقى الاخطر، إن كان نصرالله قَصد العودة الى معادلة دخول رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الى الحكومة، على اعتبار انّ التمثيل السياسي يعود تحديده الى الجهات والكتل النيابية الموجودة في مجلس النواب، وهو ما يغلب المعادلة التي حاول الحريري تكريسها بـ»وجوده في السرايا الحكومية مقابل بقاء عون في بعبدا» لتعود معادلة امّا باسيل والحريري معاً في الحكومة او «خارجها». وهو ما برّره رَد فِعل باسيل الذي لم يسبقه اليه احد ممّن ارتاحوا الى الخطاب في توقيته ومضمونه، مقابل ما أوحَت به في اوساط متعددة من تسببه بتجميد ما هو مطروح من مخارج في الاندية السياسية والديبلوماسية ووأدها جميعها.
وعليه، تبقى المعادلة قائمة، امّا ان تكون مهلة الايام الاربعة وما ستحمله نوعاً من الرهان على «المغامرة» التي يخوضها عون والحريري إن لم تأخذ مواقف نصرالله مداها السلبي، وإمّا ستكون «للمراوغة» اذا أعادت مواقفه ما هو مطروح الى نقطة الصفر. وما بين القول بـ»المغامرة» أو «المراوغة»، يمكن ان ننتقل في المرحلة القريبة المقبلة الى الحديث عن «المؤامرة»، فلننتظر.