تسلّل الشعور بمسؤولية ما إلى معظم المدعوين الى طاولة بعبدا أمس، عما آلت إليه أوضاع الدولة المالية والاقتصادية من سوء وتدهور. وهم في الوقت نفسه كانوا مدعوين إلى التبصر في معالجة الأوضاع المالية والاقتصادية، من خلال تبني الورقة الاقتصادية والمالية التي تقدم بها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بعدما شارك في بلورتها عدد من الخبراء الاقتصاديين الممثلين لقوى سياسية وحزبية من مختلف الاتجاهات الطائفية والسياسية داخل الحكومة. لم يُدعَ ممثلو قوى الإنتاج للمشاركة، لا القطاع الصناعي أو السياحي أو الزراعي، على رغم تضمين “الورقة” ما يشدد على تنشيط حركة الإنتاج في القطاعات المذكورة، ولم يُدع كذلك ممثلو النقابات العمالية أو المهنية، على الرغم من أنّ القوة العاملة أحد الأقانيم الثلاثة لعملية الإنتاج مع أصحاب العمل والدولة.
لم يستجب معظم المشاركين الى ما أراده معدّو “الورقة”، فالرئيس عون، على ما اختصر مشاركون الغاية من لقاء بعبدا أمس، يسعى إلى تمرير سلة رسوم وضرائب تمهيداً لإدراجها في موازنة العام 2020، إلّا أن بعض المشاركين بل معظمهم رفض فكرة إضافة ضرائب جديدة، وهو ما أشاع الحديث ربما عن فشل هذا اللقاء. والفشل هنا ليس في الحؤول دون فرض ضرائب جديدة، بل سابق عليه، ذلك أن ما يحول دون تحقيق أيّ تقدم في عملية لجم التدهور المالي والاقتصادي، هو عدم وجود قابلية لدى أطراف السلطة المنهمكة في تحسين حصصها في الدولة، لإحداث صدمة إيجابية بأنها قادرة على اعتماد سلوك آخر يتجاوز الزبائنية وذهنية المحاصصة. ولعل ملف التعيينات في الإدارة العامة، شاهد على عجز أطراف الحكم عن الخروج من ذهنية الاستزلام وتحويل الإدارة الى مقاطعات حزبية وطائفية.
هذه السلطة التي غرقت في غواية الفساد والانتفاع غير المشروع من المال العام، بدت شديدة الطواعية أمام خيار التنازل عن مسؤولياتها الدستورية والقانونية في مقابل توفير المكاسب غير المشروعة من مؤسسات الدولة وخزينتها العامة. وهذا ما يدفع للإشارة الى مدى الترابط بين الفساد والتهاون في شأن سيادة الدولة. سلطة الوصاية السورية لم تسيطر على لبنان بقوة السلاح فحسب، بل بإدارة عملية الفساد، بالعدل والقسطاس بين أطراف السلطة الذين انتدبتهم كممثلين لها في الحكومة ومجلس النواب، وعلى مستوى الرئاسات، نشأ نظام مصالح ونادٍ من الحكام الذين تلهوا بالسلطة باعتبارها مجالاً لتحصيل المكاسب غير المشروعة، وصناعة النفوذ والزعامة تحت سقف الوصاية وبرعايتها.
ما يعيشه اللبنانيون اليوم، هو أسوأ من إدارة عملية الفساد، هو الإفساد الذي يمكن ملاحظته من خلال التشجيع على الفساد، وجعله نظام سيطرة وتحكم، فسلطة الوصاية التي تحكم لبنان اليوم، تقوم في نفوذها على معادلة توريط أو تشجيع اطراف السلطة على اطلاق أيديهم في تحصيل صفقات في “الاتصالات” وفي الكهرباء، في التهريب عبر المرافئ الشرعية وغير الشرعية، في المنافع التي فاحت نتانتها على مستوى النفايات، في دعمهم لنيل قروض من مصرف لبنان، في التوظيفات في القطاع العام، في سرقة الانترنت، في تقاسم وضع اليد على الأملاك العامة ولا سيما الاراضي، وغيرها الكثير من الصفقات المشبوهة. يدرك هؤلاء المتورطون من الساسة والأزلام، أن ثمة من يملك ملفات تفضح ارتكاباتهم، وهي ملفات مجهزة بكل الاثباتات التي تجعل منهم أسرى في يد من يمتلكها، بل من يستطيع أن يفتحها أمام الملأ ولدى القضاء.
بهذا المعنى الإفساد هو وسيلة للسيطرة والتحكم بالمفسدين من السياسيين وأتباعهم، لذا يمكن ملاحظة أنه على رغم ما قيل عن المحاسبة والمحاكمة وكشف المتورطين، فقد خرج رئيس الجمهورية ليطلب من اللبنانيين أن يعطوه إثباتاً على تورط مسؤول في الدولة بالفساد، ليدفع باتجاه محاكمته. كأن رئيس الجمهورية بكلمته هذه لا يغلق ملف المحاسبة فحسب، بل يطوي شعار مكافحة الفساد. سلطة الوصاية الفعلية في لبنان والتي تقوم على نقيض سيادة الدولة، وعلى وضع الدستور جانباً، ورمي القانون في أحد مكبات النفايات المنتشرة في الجغرافيا اللبنانية، لتقوم هذه الوصاية بقوة السلاح فقط، بل تحتاج الى ما هو أمضى من السلاح وهو الإفساد، حين تتحول السلطة الى مجرد منافع غير مشروعة في الغالب الأعم، والسياسة الى زبائنية وتقاسم نفوذ غير مشروع، والسيادة الى شعار لا معنى له ولا قيمة ترتجى منه.