«ما أشرف الجوع بس تحس حالك عامل شي ومش ساكت عن الحق»، يكتب حسين زين ياغي على صفحته على «فايسبوك» وهو يصور بواسطة خدمة النقل المباشر، موقع اعتصامه السلمي المنفرد من أمام سراي بعلبك، قائلاً كلاماً كثيراً عن «بعلبك اللي كانت حلوة كتير». حسين أكثر المواطنين والشباب البعلبكيين المؤمنين بفرض سلطة الدولة وهيبتها ربما، وأولهم جرأة على رفع الصوت علناً.
مواطن بعلبكي يخرق صمت مدينة تعبت إلى درجة الهريان، متسلحاً بكمية من الماء والملح عند حلول موعد الإفطار وخيمة بلاستيكية صغيرة ركزها على مدخل سراي بعلبك، علم لبناني، شموع مضاءة على درج السراي من بعض أصدقائه تعبيراً عن تضامنهم معه، وردة بيضاء قدمتها له فتاة صغيرة عربون تقدير لخطوته، وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم تكن جرائم القتل الأخيرة التي شهدتها بعلبك وتحديداً مقتل الطفلة لميس نقوش منذ أربعة أيام والشاب خليل عمر الصلح منذ ما يقارب الشهرين السبب الأول لتحركه، «بل إن هذه الجرائم تأتي كنتيجة بديهية لسكوت الناس وقبولهم بالأمر الواقع السائد منذ ما يقارب الربع قرن» برأيه، لذا فان أولى خطواته العملية باتجاه محاربته لهذا الواقع كانت إنشاء جمعية safe side التي تعنى بالتوعية ضد مخاطر الرصاص الطائش والفلتان الأمني المتمادي والمستمر، والتي أقامت العديد من المحاضرات التوعوية في مدارس وجامعات ونقابات قضاء بعلبك – الهرمل، إضافة إلى نشاطات سياحية في «مدينة الشمس»، «بمجهود شخصي ومن دون أي دعم معنوي أو مادي من جهات رسمية أو أهلية في المدينة»، كما يؤكد في حديثه إلى «المستقبل». نشاطات هدفت إلى تعريف أكثر من ألفين وخمسمائة سائح لبناني زاروا المدينة السنة الماضية بكل معالمها وليس قلعتها التاريخية فحسب، بل مطاعمها وأسواقها التراثية ومطبخها التقليدي الشعبي. مبادرة فردية تأتي في ظل غياب أي خطة نهضوية لدعم المدينة وأهلها في الإطار السياحي والخدماتي من قبل وزارة السياحة، باستثناء «مهرجانات بعلبك الدولية» التي لا تتعدى فترة برنامجها أيام الأسبوع الواحد.
حسين المعتصم عن الطعام في خيمته، أصر على تناول الماء والملح فقط عند الإفطار، قائلاً: «السلطات الاسرائيلية استجابت لمطالب المعتقلين الفلسطينيين الأبطال بعد اعلان اضرابهم، بانتظار أن تستجيب السلطات اللبنانية لمطالب البعلبكيين الذين أمثل أغلبيتهم بالمطالب التي أرفعها». وفيما كان حسين يمضي يومه الثالث داخل خيمته، كان وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق يؤكد من قصر بعبدا بعد لقائه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن «الخطة الأمنية التي اتخذت سابقاً في المنطقة لم تكن كافية، ما يحفزنا على اتخاذ اجراءات حاسمة ونهائية في موضوع الفلتان الأمني في بعلبك»، لافتاً إلى أن الدولة «مقصرة وتأخرت في اتخاذ الاجراءات اللازمة في المنطقة، والتي لم تعد تحتمل».
وفيما أصدرت عشيرة آل وهبي بيان استنكار وادانة لجريمة الطفلة لميس، داعية القضاء الى التحقيق السريع، ومؤكدة أن لا علاقة لها بالجريمة، مع تحميلها كامل المسؤولية لابن عم الضحية ووالدها على خلفية اطلاق الرصاص من الخلف، يرفض أهل الطفلة تقبل التعازي بوفاتها قبل أن يتم القاء القبض على القاتل، ويؤكدون أن مدينة بعلبك تستفيق على واقعها المر يوماً بعد يوم المرهون بأيدي نوابها ومسؤوليها و«زعرانها» الذين شرّعوا أبواب الفلتان والاستقواء والتعالي على السلطة الشرعية.
ويسأل حسين عن سبب سهولة حصول أي شاب من بعلبك حصراً على رخصة حمل سلاح من دون أي تكلفة مالية تذكر حتى، فيما الحصول على وظيفة تبقى من شبه المستحيلات. ويكرر عدم ثقته بنواب المنطقة وأحزابها الذين لم يتوانوا لحظة عن إرساء ثقافة الأمن الذاتي وعلى جميع المستويات، بين الأهالي والعشائر وبينهم وبين الدولة. فكيف لمجتمع أن يستقيم بحيث يستسهل استعمال السلاح بين جيران الحي الواحد على أثر إشكال وتلاسن بسيط، وبعد هروب المعتدين تعمد «لجنة إصلاح» تابعة للأحزاب على فض الخلاف وفرض الصلح بين الطرفين ليتم بعدها التنازل عن الدعوات القضائية المرفوعة من الجهتين ويغلق الملف؟. أما رخص السلاح المنتشرة عشوائياً بسبب أو بدونه وبحجة استحصالها للحماية الأمنية، فتخول حامليها من مجرمين ومعتدين على أمن الناس، اجتياز الحواجز الأمنية بسهولة تامة، فيما لا يطبق التدقيق الأمني والقانوني سوى على المواطنين الملتزمين أصلاً بسقف الدولة.
التنميط هذا يحصر اذاً مدينة بعلبك إلى حد ما بصورتين لا غير: سلاح مشرّع بحكم أمر واقع والاصرار الممنهج على جر أهلها الى التقوقع والأمن الذاتي، ويشوه طابع المدينة التاريخي والحيوي شيئاً فشيئاً وصولاً إلى تعميم المفهوم الإجرامي والفلتان الأمني الخطير المهدد للحياة العامة والنمو الاقتصادي والاجتماعي. لكن الاساءة الى صورة المدينة تتواصل أيضاً حتى من خلال نماذج هي أقرب ما تكون إلى السلطة الشرعية، في البرلمان، في الحكومة، في المؤسسات الأمنية والرسمية والدينية. يستنجد حسين برئيس الجمهورية، آملاً أن تصل أصداء خطوته إلى «بي الكل، والذي من المفترض أن يهتم ويرعى ويؤمن سلام حياة جميع أبنائه». ويؤكد بأعلى صوته «رغم وجع الكثيرين في بعلبك، سنبقى مصرين على عدم حمل السلاح أو الانجرار إلى الأمن الذاتي، اذا بدن يانا نقتل بعض أكترية الشعب ما بدو».