IMLebanon

بين مهرجانات الأمس، ومآسي هذه الأيام

 

جملة من الأحداث تكدست بين الناس في هذا البلد المنكوب حتى لم يخل يوم من مظاهرات واحتجاجات وشعارات تطلق على امتداد البلاد، معبرّة أصدق تعبير، عن أحوال عامة غاية في السوء، ولعل أبرز ما خلفته بين الناس، مؤشرات الجوع وما أسفرت عنه، جملة من الإنجازات سبقتها جملة من النداءات والشعارات لعل أهمها تلك التي أطلقها منتحر غمرته المعاناة فودّع الحياة بطلق ناري وسجل عدلي حرص على إبرازه مع جثته لجموع الناس وشعار كتبه بلون دمه، ينم عن روح متدينة تبرز وهو يستحضر إليه الموت بأنه ليس بكافر إنما الجوع كافر، أربع عمليات إنتحارية برزت إلى الوجود في المرحلة الأخيرة، وهي مؤشر خطير نستغرب كيف أنه كاد أن يمر مرور الكرام على السلطة الآثمة التي تحايلت على الناس.

 

فإذا بمزاعم إطلاق حكومة التكنوقراط وبكونها تمثل ثورة 17 تشرين ومطالبها وشعاراتها إذ أنها بشكل عام (مع بعض الإستثناءات) حكومة متخلفين، بل متراجعين إلى الصفوف الخلفية ومتشبثين بواقع سلطات الأيام الغابرة، وتنفيذ مطالبها، مستعيدة ذلك التوصيف الذي نشأت به وسارت على خطاه، متشبثة بما أطلق عليها بأنها حكومة حزب الله، وهي مكملة جملة من الخطى في هذا الإتجاه، فسيري فعين حزب الله ترعاك، والعهد الذي يواكب الحزب في كل مراحله ولم يقصّر في هذا التوجه الذي كبّل البلاد بأوضاع مفروضة، حيث استمر مركز الرئاسة شاغرا قرابة العامين، ومع الأسف، فقد لحقته جملة من الانهيارات التي ما زالت مستمرة في مسيرة التدهور العام، لبلد كانت له جملة من المقومات، وأمسك السارقون والناهبون بكل مواقع الحياة فيه، واذا بنا نزداد تراجعا وتدهورا، واذا بمواطني هذا البلد وقد انقلبت توجهاتهم نحو الهجرة إلى أي مكان في العالم يؤمن لهم «مرقد عنزة» في رحابه.

 

ومع ذلك، هذا البلد يأبى التراجع ويرفض الموت السريري وتصدر عنه انتفاضات وصحوات تعيده إلى آفاق حياة حضارية، غاية في التطور كانت له وأطلقته جملة من النجوم الساحرة في أجواء العالم بأسره.

 

في عز الظلمة والهبوط الحاد، أشرق من قلعة بعلبك إحتفال ساحر تم نقله على شاشات التلفزيون اللبنانية كافة، بكل فخر واعتزاز (مع استثناء تلفزيون المنار الذي أحجم لأسباب تخص الحزب وحده وارتباطاته العقائدية التي انتقلت إليه من مبادىء ولاية الفقيه) وكان احتفالاً رائعاً أعاد إلى الأذهان، روعة هذه الحقبة التي مرّت على لبنان، وصنفته طليعة فنية وثقافية وحضارية بين الدول كافة، وأطلقته شعلة وضاءة في العالم بأسره، وأطلقت معه نجوما متفوقين في دنيا اللحن والغناء والشعر الخلاب، عنينا بالتحديد، الأخوين رحباني اللذين امتلئا حباً وعشقاً لبلدهما الحبيب، فأطلقا قصائد ذات وقع دافيء وحنون، وارتباطا تشبث بهذا الوطن الخلاب، الذي لبث في مواقعه المتفوقة حاملا في الأجواء صوت فيروز التي ارتبط اسمها وغناؤها المتفوق بجذور هذه الأرض وأهلها وتراثها، فكانت خير معبر عن بلدها لبنان، سواء في تلك المهرجانات البلعلبكية التي أطلقت إلى الوجود أساطير الفن اللبناني متمثلين بشكل خاص، بتوفيق الباشا ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وروميو لحود وسواهم ممن أمسكوا العنان لتلك المهرجانات على مدى سنوات عديدة، وكان لهم الفضل والمساهمة المتفوقة في إطلاق الفن اللبناني والحضارة اللبنانية إلى أجواء العالمين العربي والدولي، وكم أحيت تلك السهرة التلفزيونية التي أطلقت من تلك القلعة الخلابة، بمشاعر العز والإفتخار خاصة لدى الأجيال التي واكبت تلك المهرجانات وما اسفرت عنه من عطاء فني وثقافي وحضاري أصيل، وكم نضرب في هذه الأيام الشديدة السواد كفاً بكف وأسفاً على أسف، للحال التي وصلنا إليها وأوصلتنا إلى مجاهلها أيادي السارقين والناهبين والمخربين، حتى لبات هذا الوطن اللؤلؤة، في أسفل السافلين، وفي قعر التصنيفات لا يوازيه في قدرها وقيمتها إلاّ تلك البلدان المتأخرة بل تلك التي من زمن يعيد وهي تغرق في سفليات التخلف.

 

أيها المستمرّون في عملية إغراق الوطن في الأوحال والأوزار التي أورثتموها له ولأجياله الطالعة التي بات جلّ أملها أن تسعد بالرحيل عن هذا البلد، الذي بات غارقا في طوفان الأحداث المأساوية، مكررين شعارها المرفوع بتشبث وتصميم:

 

نيال من له مرقد عنزة خارج لبنان.

 

الوطن يهتز بعنف، ومعه مستقبل أبنائنا، هل من مجال لإنقاذ وخلاص يحفظ لنا بعضا من ظروف حياة مقبولة ومعقولة، نتساءل والغصة تكوينا، والجواب معروف.