IMLebanon

بعلبك الهرمل.. كلّ ما تبقى من لبنان الوطن

تلقيت مساء الخميس خبراً عاجلاً على هاتفي .. يقول بأنّ «داعش» وجهت إنذاراً إلى قوات المعارضة السورية المتواجدة في منطقة القلمون السورية تمهلها فيه يومين لمبايعة أبو بكر البغدادي .. أو أن «داعش» ستضطر إلى طردهم إلى عرسال.. كان ذلك الساعة الحادية عشر والنصف من مساء الخميس الماضي.. أي أنّ هذه المهلة ستنتهي منتصف ليل هذا المساء السبت الثالث عشر من كانون الأول ٢٠١٤.

إنّ إعلان داعش يعبّر عن نيّتها بالسّيطرة على الحدود اللبنانية السّورية لجهة البقاع.. أي القلمون السورية.. وهذا يعني وبكلّ بساطة أنّ محاولات إثارة الفتنة السّنية – الشّيعية لم تنجح عبر جرائم الإعدام بحقّ العسكريين المخطوفين ومن شيعة بعلبك الهرمل تحديداً لدى داعش والنصرة ومن عرسال بالذات.. لأنّ الوعي الوطني لدى أهالي الشهداء وعائلات المنطقة وعشائرها ورجال الدين الكبار عكس إرادة وطنية عالية وفوّت على الإرهابيين تلك الفتنة البغضاء.

سبق وكتبنا في هذه الزاوية تأييدنا لمبادرة الرئيس سعد الحريري الحوارية لوَأْد هذه الفتنة والسعي لانتخاب رئيس للجمهورية.. لأنّ الفتنة السنية – الشيعية  ستنهي الجمهورية والجمهور..  وعندها لا يعود هناك من ضرورة لوجود رئيس جمهورية لجمهورية لم تعد موجودة.. والمذهل في هذا الموضوع أنّ الأكثر اهتماماً برئاسة الجمهورية هم الأكثر إعتراضاً على مبادرة الرئيس سعد الحريري.. وخصوصاً عندما نسمع من يريد إعادة النّظر في صيغة الجمهورية مقابل رئاسة الجمهورية وآخرون يرفضون الحوار إلاّ بعد انتخاب رئيس الجمهورية.. يعني أنّ الطرفين المختلفين على كلّ شيء إتّفقا على رفض الحوار الموعود.

لا نريد أن نشرح هذه المواقف.. وما يعنينا هو معرفة مدى إدراك مكوّناتنا السّياسية لخطورة ما يدور على أرضنا وعلى حدودنا في جبل الشيخ والقلمون.. وماذا سيكون حال لبنان واللبنانيين في حال دخول لبنان في نزاعات المنطقة.. والتي لا تشبه أبداً ما نشاهده في المتابعة المريحة عبر الفضائيات لحرائق سوريا والعراق.. لأنّ دخولنا في نزاعات المنطقة بهذه الخفة يجعلنا في وضع من تصوّره الكاميرات وما تتناقل أخباره.. وسيكون أطفالنا ونساؤنا ودولتنا واستقرارنا هم ضحايا الخفة والميوعة والاستهتار والجهل بألف باء السياسة وهي سعادة الانسان وسلامته.

  قد أكون متطرفاً أو حاداً في تعابيري وهذا طبيعي لأنّ «النار ما بتحرق إلا مَطْرَحْها».. وانا بعلبكي جداً.. وخصوصاً الآن.. وأنّ التّصدّي للفتنة الشيعية – السنية هي عندي قصة حياة أو موت وقضية..  وليس حواراً سياسياً بين أحزاب وتيارات وطوائف.. لأنّ هذه المنطقة العزيزة وبكلّ المعايير تحمّلت ضعف الدولة وحماقة وميوعة السياسيين على مدى عقود طويلة.. هي المنطقة الوحيدة في لبنان التي لم تذبح على الهوية .. ولم تشهد أي عملية تهجير مذهبي أو طائفي..  ولم تنهب البيوت..  ولم تهدم الكنائس أو الجوامع.. ولم تصادر الحقول والمزارع .. ولم تأخذ حقوقها بالتوظيف والضباط والمدراء العامين والوزراء والسفراء.. وهي المنطقة الوحيدة التي لم تفتتح فيها الجامعة اللبنانية فروعها العشوائية .. ولم تُبن فيها الصروح الحكومية ولا البنية السياحية.

إنّ بعلبك الهرمل عائلة وطنية واحدة.. متعدّدة الأديان والمذاهب والعقائد.. وهي منذ إعلان لبنان الكبير.. كانت الحدود البشرية الصلبة والمنطقة العازلة بين بقاء لبنان وزوال لبنان.. وأنّ أعداء لبنان الكبير يعرفون هذه الحقيقة جيداً .. وهم من ابتكر أيام الحرب الأهلية أحداث القاع للإيقاع بين المسلمين والكاثوليك.. وكنتُ موجوداً في ذلك المساء مع الصديق دريد ياغي في منزل المرحوم أبو أسعد جعفر والد صديقي احمد صبحي.. وكنّا ننتظر سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر الذي لم ينم حينها حتى رُفع الحصار عن القاع العزيزة.. وتكررت المحاولة للإيقاع بين دير الأحمر المارونية ومحيطها ومن الجهات عينها.. وقد زرتُ يومها سماحة الإمام المغيّب في المدرسة العاملية في رأس النبع ..حيث كنتُ أعمل في جريدة المحرر .. وكان سماحة الإمام الصدر قد اعتصم وأعلن الصيام من أجل فكّ الحصار عن دير الأحمر.. وهكذا كان.

يهمّني أن أقول للرئيسين نبيه بري وسعد الحريري ولسماحة السيد نصرالله ولأحزاب ٨ و١٤ آذار ورموزها الإعلامية والسياسية ونوابها ووزرائها.. أنّ بعلبك الهرمل وأهلها ثروة وطنية مسيحية – إسلامية وشيعية – سنية.. وفي وحدتها وصلابتها بقاء وحدتكم وصلابتكم..  ولن تتحمّلوا نتائج إنفجارها الإجتماعي والسّياسي.. وأنّ خصوم لبنان لا يخفون نيتهم بإشعال هذه الفتنة.. ويقيني أنّ اغتيال الشهيد علي البزّال كان يستهدف إرادتكم الحوارية التي فيها مناعتكم الوطنية..  وكان يراد من جريمة الإعدام الإمعان بتدمير ثقة مواطنيكم بكم.. وهذا ما نشهده كلّ دقيقة عبر عذابات أهالي العسكريين أمام تخبّط دولتنا في التّعامل مع قضية أبنائهم.. وأعتقدُ بأنّ القيادات التي ذكرت تأخّرت كثيراً في احتضان البيئة المستهدفة من عملية الاختطاف.. ومنذ البداية كانت الغاية منها إحداث فتنة شيعية – سنية لأنّها المنطقة الوحيدة في لبنان التي يتداخل فيها السنة والشيعة بهذا العمق.. كما كان المقصود أيضاً ترهيب المسيحيين في القاع ورأس بعلبك وبتدعي.. وكلّها أحداث متصلة تعمل على إنتاج بيئة مضطربة.. وكان علينا منذ البداية العمل على بناء شبكة أمان تمنع الخصوم من تحقيق أهدافهم مهما كانت التضحيات .. إلاّ أنّ ما وصلنا إليه فيه كلّ الأجوبة عن لماذا وصلنا إلى هنا وعن الأخطاء هنا والأخطاء هناك.. والأهم من معرفة كيف خطف جنودنا هو كيف يعود جنودنا.. والأهم مِن كيف وصلت داعش إلى حدودنا هو أن لا تدخل بيوتنا.. وأتمنى أن لا يكون قد فات الأوان.

منتصف هذا الليل سينتهي الوقت الذي حدّدته داعش للفصائل السّورية المعارضة.. وفي كلّ الحالات إن بايعتْ الفصائل داعش فستكون داعش دولة جوار.. وإن لم يتم ذلك فستكون داعش على حدودنا وعودة الوجود السوري المسلّح إلى لبنان.. علينا أن نسرّع الخطوات وعلى الجميع تحمّل المسؤولية.. وأنّ مجرد إعلان داعش عن رغبتها بالسّيطرة على حدودنا الشرقية يعني إلحاق لبنان بموصل العراق يا سادة!.. وهذه حقيقة وليست طواحين هواء.. وأتمنى أن يخاف الجمهور من كلّ تصريح أو خطاب يهدّد ولو دجاجة في لبنان لا أن يصفّق له.. هذا ما أشعر به أنا  كبعلبكي كلّ لحظة أسمع فيها تصاريح تهدّد سلامة أهلي في بعلبك الهرمل.. والملفت أنّ معظم السياسيين في بعلبك الهرمل.. وقيادات الأحزاب والتّيارات.. ومن كلّ الاتجاهات السياسية.. المسيحية والإسلامية.. والسّنية والشّيعية.. وحدهم لا يساجلون ولا يطلقون التصريحات الهوائية والنارية حرصاً منهم على العائلة الوطنية الكبيرة.. وهذه أخلاق المنطقة.. وهذا ما كانت عليه على مرّ تاريخ لبنان السّياسي الذي شهد تقلبات وانقسامات قوية..  بينما بقيت بعلبك الهرمل ثابتة ونقية الإيمان بالوحدة الوطنية.. لأنّ كلّ عيش غير انصهاري يعاني من نقص في المناعة الوطنية.. وأنّ بديهيات الهوية هي التّعاقد على العيش معاً.. ولهذه الأسباب البديهية أشعر بالخوف من تهديد داعش وليس نتيجة خبرتي السياسية.. وأجد في الحوار السّني الشّيعي قصة حياة طويلة وقضية وطنية.. لأنّ بعلبك الهرمل هي كلّ ما تبقى من لبنان الوطن وليس من دولة الطوائف والأحزاب والنزاعات.