Site icon IMLebanon

بعث الخمسينات

 

أن نلاحظ وجهةً ما، فهذا لا يجعل الملاحظة مطلقة ولا الوجهة مطلقة. فهي لا تنضوي، بالضرورة، على كلّ حدث وكلّ إشارة. هناك دائماً علامات تنفر أو تشذّ. مع ذلك تبقى هناك وجهة عريضة تمكن برهنتها، فيها يصبّ عدد مُعتبر من العناصر والدلالات.

 

 

الوجهة التي نحن في صددها مفادها وجود عصر ذهبيّ يرنو إليه الشعبويّون والقوميّون اليوم. إنّه عقد الخمسينات. هذا ما يصحّ على الأميركيّين منهم وعلى الأوروبيّين خصوصاً، لكنّه يصحّ أيضاً، وإن بطريقة مختلفة، على الروس.

 

للغربيّين الشعبويّين عموماً، الخمسينات هي ما قبل الستينات، أي ما قبل عقد التفسّخ والانحلال ودعوات الحرّيّة الفرديّة والجنسيّة. إنّها عقد القيم الأخلاقيّة المتمحورة حول العائلة الأبويّة. يومذاك ساد الرسوخ والتوطّد، والنسج على ما درج عليه الآباء والأجداد. التجريب المفتوح لم يكن قد حظي بالموقع الذي أحرزه لاحقاً. أمّا التعدّديّة الثقافيّة والإثنيّة فكانت مجرّد طوبى يعلكها الطوباويّون.

 

للأميركيّين منهم، كانت الخمسينات عقد الخروج إلى العالم من موقع قوّة برهنته الحرب العالميّة الثانية ومشروع مارشال. صحيح أنّ الولايات المتّحدة مارست السخاء، مُضحّيةً بالبشر في الحرب وبالمال في المشروع، لكنّها كانت تصنع العالم الأميركيّ الذي يدرّ الأرباح في النهاية على صانعيه. للداخلين إلى أميركا، كانت تقول: انصهروا في «البوتقة». للناظرين إليها من الخارج، كانت تلوّح بـ «الحلم الأميركيّ». أوروبا القديمة كانت تسلّمها الراية، فيما يسوّرها العداء المتبادل مع الروس والصينيّين عن خطر التلوّث بالبربريّ. والصين، بعد كلّ حساب، لم تكن منافساً تجاريّاً، هي التي لم تكن تتاجر أصلاً. العمالة في الداخل كانت تطرد البطالة، والقطاعان التقليديّان الصناعيّ والزراعيّ كانا هما الاقتصاد. الحقوق المدنيّة لم تكن في الحسبان. الأقلّيّات كانت أقلّيّات، والجماعات والفئات، بما فيها النساء، كانت حقوقها قليلة. الثقافة كان صنّاعها البارزون أميركيّين، ينتسب إليها بخفر مثقّفون فرّوا من ألمانيا النازيّة. هموم تلك الثقافة يطغى عليها المحلّيّ.

 

للأوروبيّين الشعبويّين والقوميّين طريق عاطفيّ إلى الخمسينات لا يختلف كثيراً عن الطريق الأميركيّ: صحيح أنّ الامبراطوريّة تراجعت بدليل استقلال الهند وحرب الهند الصينيّة ثم الجزائر والسويس. لكنّ نزع الاستعمار كان في بداياته. الجلاء عن أفريقيا لم يبدأ إلاّ في الستينات الملعونة. دولة الرفاه كانت تضمن، والهجرة كانت محدودة ومضبوطة، فيما السفر من الخارج كان ضئيلاً يكاد يقتصر على أغنياء «العالم الثالث» وأعلى شرائح طبقاته الوسطى.

 

في الملبس الخمسينيّ كما في المظهر وتسريح الشعر، ساد الترتيب والاحتشام النسبيّ. السيّدة التي كانت تكشف عن كتفها كانت تُسمّى ملكة إغراء. الرجل كان «رجلاً» والمرأة «مرأة»، والفصل واضح بين ما هو للرجال وما هو للنساء. الممثّل والممثّلة السينمائيّان كانا «جميلين». النجم نجم والنجمة نجمة. إنّه زمن البطل لا البطل المضادّ. الإيجابيّ لا السلبيّ. التفاؤل لا التشاؤم. إنّه زمن الثبات واليقين. الوضوح، لا الالتباس.

 

للروس القوميّين أيضاً كانت الخمسينات ستالينيّة. صحيح أنّ أب الشعوب غادر عالمنا في 1953، لكنّ العام نفسه شهد دبّاباته تسحق برلين. صحيح أنّه دين في 1956، لكنّ العام ذاته شهد تلك الدبّابات إيّاها تسحق بودبست. ستالين، الذي عبّر فلاديمير بوتينعن تقديره له، هو شخصية الثبات والتوطّد والوضوح، فضلاً عن القوّة. الانشقاق لم يكن ظاهرة. «تسلّل الغرب واليهود» كان يقتصر على أفراد منبوذين.

 

وفي أزمنة كزمننا الذي تتلاحق تغيّراته بسرعة غير مسبوقة، في حركة البشر وتقدّم العلوم وتحوّل القيم، فضلاً عن عولمة الاقتصاد وتصدّع السيادة الوطنيّة، يرتسم الملجأ على شكل خرافة: إنّها خرافة العودة إلى ماضٍ ربعه حقيقيّ وثلاثة أرباعه من صنع الخيال. إنّها البعث، وهي هنا: بعث الخمسينات.