بات مؤكّداً أنّ الرئيس بشّار الأسد على وشك استعادة موقعه العربي، انطلاقاً من الخليج، أي من النقطة الأقوى. فبعد التطبيع مع الإمارات والسعودية، لن تبقى دولةٌ عربية «ممانِعة» لعودة دمشق، واسترجاعها المقعد الذي خسرته في جامعة الدول العربية، وهو ما يُنتظر حصوله في قمة الجزائر، في الخريف. وستؤدي هذه العودة إلى إِحداث الكثير من المتغيِّرات بين اللاعبين في الشرق الأوسط، ولبنان جزء منها.
بعد حرب أوكرانيا، بدأت ترتسم معادلة جديدة في الخليج العربي. فالموقف الإماراتي والسعودي الأكثر تفهُّماً لموسكو فاجأ الأميركيين واستفزهم. وربما جاءت زيارة الأسد لأبو ظبي لتكمل الصورة.
كان الخبراء في الشأن الإقليمي يخشون أن يدفع الشرق الأوسط ثمناً غالياً للحرب في أوكرانيا. فقد افترضوا أنّ الخليجيين العرب (قطر خصوصاً، ثم الإمارات والسعودية) سيرتكبون الخطأ ويستخدمون مواردهم من النفط والغاز في مواجهة روسيا، وبطلب من الولايات المتحدة.
والعلامة الأولى في هذا الشأن، كانت زيارة أمير دولة قطر لواشنطن، قبيل الحرب، حيث قدَّم إلى الرئيس جو بايدن وعداً صريحاً باستخدام الغاز القطري لتعويض الأوروبيين حلفاء واشنطن ما قد ينقصهم من الإمدادات الروسية التي تشكّل 40% من حاجاتهم.
كان يُخشى أن يؤدي هذا الموقف العربي إلى استفزاز موسكو، فتردّ على العرب بقسوةٍ. لكن ما جرى خالف التوقعات. فالخليجيون التزموا موقفاً محايداً من الحرب، بل أطلقوا إشارات واضحة إلى التقرّب من موسكو، منها الزيارات المتبادلة بين الإمارات وروسيا. وهناك مؤشرات أخرى إقليمية: الهدوء النسبي في اليمن، وتوقّف الهجمات الحوثية على الإمارات والسعودية، وزيارة الأسد.
يتسرّع بعض المحللين عندما يعتقدون أنّ هذا التقرُّب العربي من موسكو، على حساب العلاقات مع الأميركيين، سيستفزّ إسرائيل فتردّ بتجميد مسار التطبيع مع الخليجيين. والصحيح هو أنّ إسرائيل نفسها تلتزم أيضاً موقفاً مشابهاً من الحرب في أوكرانيا.
هي لم تحرق أصابعها بالانحياز إلى الأميركيين، ومثلَها تركيا. والطرفان يحاولان الاضطلاع بدور الوسيط لوقف الحرب، لا أكثر، ويتموضعان على مسافة وسطى بين الروس والأميركيين. وكلاهما يعملان لقطف الثمار، إذا نجحت الوساطات.
صحيح أنّ الإسرائيليين هم حلفاء واشنطن المدلّلون في الشرق الأوسط، لكنهم أيضاً يرتبطون بعلاقات وطيدة جداً مع الكرملين، ومعه ينسقون الخطى، كلما قرّروا ضرب أهداف إيرانية «مزعجة» في سوريا.
كما يتطلع الإسرائيليون بواقعية إلى الصين، العملاق الدولي الذي سيكرّس حضوره في الشرق الأوسط خلال العقود المقبلة. وفي العادة، يضع الإسرائيليون خططهم لعقود، لا لسنوات. وقد شكّل التقارب الإسرائيلي – الصيني استفزازاً لواشنطن عبّرت عنه إدارة دونالد ترامب مراراً.
والرسالة التي يوجّهها الخليجيون تستهدف بايدن الذي تعاطى معهم باستخفاف، أخيراً، عندما تعرّضت الإمارات لضربات الصواريخ والمسيَّرات الحوثية والإيرانية وهدَّدت استقرارها، إذ لم تقدِّم واشنطن إلى الإماراتيين ما ينتظرونه من دعم.
واليوم، يعتقد الخليجيون أنّ من الحكمة أن يحتفظوا بكل الأوراق وألّا يحرقوا أياً منها، حتى تبلوُر الصورة، على غرار ما يفعل غالبية اللاعبين (إسرائيل، تركيا، الأوروبيون وحتى الإيرانيون). واستقبال الأسد جاء في هذا السياق.
طبعاً، مسار التطبيع الخليجي، والإماراتي خصوصاً، مستمر منذ عامين بوتيرة متسارعة. والمحطات التي شهدها توحي بأنّ زيارة الأسد للخليج جاءت بديهية، وأنّ الخطوات اللاحقة ستكون عودته الرسمية إلى الجامعة العربية، في قمة الجزائر المفترض عقدها في الخريف. لكن توقيت استقبال الأسد، في ظلّ الامتعاض الأميركي، هو رسالة عاجلة تعمَّد الإماراتيون توجيهها.
حتى اليوم، يبرِّر الخليجيون تطبيعهم مع الأسد بالمعادلة الآتية: كلما اقتربنا من الأسد وأعدنا احتضانه، سيبتعد عن إيران وسينخرط في منظومة التسويات الشرق أوسطية. وهذا الهدف لا ينكره الأميركيون. كما أنّ أياً من القوى الدولية لم تعمل فعلاً لإسقاط الأسد، فيما كان الخليجيون يتكبّدون أكلافاً هائلة في الحرب السورية، لتحقيق هذه الغاية.
ربما هذه هي المرّة الأولى التي يتخذ فيها الخليجيون موقفاً يرتكز إلى البراغماتية السياسية. والكلام على انقلابهم ضدّ الولايات المتحدة متسرِّع بالتأكيد. ولكن، على الأقل، هم يريدون إبلاغها اليوم أنّهم لم يعودوا مجرَّد صناديق للمال وآبار بترول، تبحث عن تغطية للاستمرار بأي ثمن!
في هذا الخلط الجديد للأوراق، ولعبة التوازنات التي يريدها الخليجيون بين الروس والأميركيين والصينيين، وفي التقارب مع الأسد، هناك رابحون وخاسرون. فماذا عن إيران وإسرائيل اللتين لا يمكن عزلهما عن اللعبة؟
عندما يستقبل الخليجيون الأسد فإنّهم يستقبلون الحليف العربي الأول لإيران، إذ ليس صحيحاً أنّ الأسد خرج من المظلّة الإيرانية إلى المظلة الروسية تماماً. وفي المقابل، عندما يعود الخليجيون إلى سوريا بأموالهم واستثماراتهم لإعادة بنائها، فإنما يعودون إلى ساحةٍ تتمتع فيها إيران بقوة وفاعلية، ولو أنّ روسيا صارت صاحبة القرار السياسي الأول هناك.
إذاً، على أرض الواقع، يمكن الاعتقاد أنّ الأسد قد يتبرّع بالاضطلاع بدور مهمّ لردم الهوّة القائمة بين الخليجيين العرب وإيران، وهو يطمح إلى تقاضي الثمن مقابل قيامه بهذه المهمّة. وعلى مدى عشرات السنين، اضطلعت دمشق حافظ الأسد، ثم بشّار الأسد، بأدوار مطلوبة منها إقليمياً ودولياً، مقابل حصولها على الأثمان.
وعلى الأرجح، قد يحتاج الخليجيون إلى هذا الدور، وكذلك الإيرانيون. وأما الإسرائيليون فقد لا يمانعون إذا حصلوا على الثمن أيضاً. وهذا الأمر ليس مستحيل التحقيق ضمن صفقة تحفظ مصالح الجميع، وانطلاقاً من المناخات التي ستفرضها مفاوضات فيينا في النهاية. في هذه المسألة ستكون هناك مقايضات، وليس مستبعداً أن يرضخ الجميع لمقتضيات الصفقة: الخليجيون يريدون إنهاء متاعبهم في اليمن. الإيرانيون يهمُّهم الحفاظ على الحضور والمكتسبات الإقليمية. إسرائيل تريد التطبيع والمكاسب الاقتصادية، والولايات المتحدة تريد إبعاد روسيا والصين. لكن موقع روسيا مُصان في سوريا.
هنا يصبح ممكناً تصوُّر الصفقة، وما يمكن أن يفعله الأسد مقابل المشاركة فيها، خدمة للجميع، وما الثمن الذي سيُعطى له. وفي الخضم، أين سيكون لبنان الغارق في الانهيار الشامل، والباحث عمَّن يلمُّه. ومَن ستكون له حصَّة الأسد في ذلك؟