طار “بشار” وسردية “القائد الأبدي” كذبة
“كان هذا اليوم بمثابة حلم… بكيتُ عندما سمعت الخبر، لكن البكاء لم يكن كله فرحاً. نحن السوريين عشنا تجربة مريرة علّمتنا أن الفرح يمكن أن يكون قصير الأجل. أريد أن أصدق أن القادم أفضل، لكن علينا أن نكون مستعدين لكل شيء”. كلام لامرأة من اللاذقية لا تجرؤ على الفرح مثل كثيرين غيرها من السوريين الذين باتوا مفطورين على الخوف يعايشونه كأنه جزء منهم. هم تحرروا من الطاغية فمن يحررهم من الخوف؟
“حتى بعد سقوط النظام، ما زلت أشعر بالخوف عندما أتحدث بالسياسة. أحتاج إلى وقت كي أعتاد على فكرة أنني أتمكن من التحدث بحرية من دون أن أخشى الاعتقال أو التعذيب” شاب من درعا سطّر مشاعره على صفحة تواصل وربما ينتظر في قرارة نفسه من يستدعيه للتحقيق. أكثر من خمسة عقود من القهر تركت في قلوب السوريين رجفة تأبى أن تستكين .
ما كان يظنه الشعب السوري “أبدياً” انتهى بليلة ليتبيّن أن الأبد الذي زُرع في أذهانهم وأوهمهم بالقائد الذي لا يتغير والنظام الذي لا يهتز ليس “أبداً” وأن الزمن قادر على تحطيم أكثر الأنظمة استبداداً مهما بدت خالدة. لكن بين الأبد وواقع اليوم يعيش شعب سوريا حالة من انعدام التوازن ولسان حالهم: “عند تغيير الدول إحفظ راسك”.
بين التحرر والنوستالجيا
“قائدنا الى الأبد” كانت أكثر من شعار كانت رمزاً لقمع أي طموح بالتغيير وتداول السلطة ودعوة لا لبس فيها للصمت والخضوع. عبارة تأصلت في الوعي الجماعي للشعب السوري” وفق ما تشرحه الباحثة في علم الاجتماع غرايس كرم. تضيف “هي عبارة دفعته للاعتقاد أن أي محاولة للتغيير عبثية. وتأكيداً على ذلك ما قاله الممثل السوري أيمن زيدان حين اعتذر من الشعب السوري قائلاً: “كم كنت واهماً… ربما كنا أسرى لثقافة الخوف أو ربما خشينا من التغيير لأننا كنا نتصور أن ذلك سيقود إلى الدم والفوضى”.
“الأبد” الذي صُوّر وكأنه حقيقة لا جدل حولها تبيّن أنه بناء عقل بشري شرير يعتمد على الترهيب والخداع والزنازين وأن سقوطه ممكن حين تتغير الظروف. فهل تغيرت عقلية الاستسلام مع زوال هذا الأبد؟
“عندما يكسر الشعب حاجز الخوف، كما حدث في بداية الثورة السورية – تقول كرم- يبدأ الأبد في التلاشي ومع سقوطه تتحرر اللغة والسياسة وهذا ما شهدناه في هتافات عدة أبرزها “يلعن روحك يا حافظ” وفي تمزيق الصور والدوس عليها”.
لكن مظاهر التعبير عن الغضب كما مظاهر النشوة والفرح بالانتصار لا تخفي المشاعر المتناقضة التي يعبّر عنها البعض بخجل وبقية خوف. فالأنظمة الديكتاتورية كما كان حال الأسد تخلق عادة حالة من الاستقرار المزيّف ومع سقوطها يشعر الشعب بعدم اليقين تجاه المستقبل وقد يشعر حتى بالحنين والنوستالجيا إلى النظام القديم لاعتقاده انه كان يوفر له درجة من الاستقرار والأمان.
في هذه المرحلة الانتقالية تلعب وسائل الإعلام وفق علم الاجتماع دوراً كبيراً في توجيه هذه المشاعر حيث يمكن أن يتم تضخيم النجاحات أو الإخفاقات ما يعزز شعور الأفراد المتناقض حول الواقع الجديد، ولا شك أن إعلام الممانعة كان له دوره في تأجيج الخوف والقلق.
شعب سوريا بين المرونة والصلابة
في دراسة نفسية لما عاشه الشعب السوري تقول ديانا أبو نادر المجازة في علم النفس العيادي والتي أجرت دراسة موسعة حول التروما التي عاشها اللبنانيون إثر انفجار المرفأ “ان الشعب السوري عانى طويلاً من القمع وكان مضطراً للخضوع وهو ما ولّد لديه تجارب نفسية مؤلمة اضطرته إلى التأقلم السلبي للتكيّف مع الظروف وأجبرته على أن يكبت مشاعره وأفكاره وصولاً إلى تجنب التفكير بما يعيشه. وهذا وفق علم النفس يولد شعوراً مزمناً بالقلق والترقب والتيقظ والعزلة الاجتماعية. فالنظام أحدث شرخاً بين السوريين بين موالٍ ومعارض فبات الناس خائفين من بعضهم البعض، لا ثقة لهم بالآخر لا سيما مع وجود كمّ كبير من المخبرين يتجولون وسطهم وينقلون أخبارهم”.
“شكّلت الطريقة التي انتهى بها النظام – في رأي علم النفس العيادي- صدمة إضافية تراكمت فوق صدمة القمع الأساسية، إذ ما كانوا يتوقعون سقوطه بهذه السرعة، وهم لا يزالون قلقين يبحثون عن مفقوديهم وأبنائهم ولا يعرفون لهم مصيراً، خائفين من عودة مجرمي الحرب وثمة من يقول لهم ستترحمون على الأيام الماضية. يتساءلون عما يمكن أن يحل بهم وما يخبئه المستقبل وهذا لا شك سيزيد عندهم ما يعرف بأعراض ما بعد الصدمة من قلق وخوف وعزلة ونقزة من كل صوت أو حركة يسمعونها، سترافق الكوابيس لياليهم والصمت أيامهم بعد أن أدمنوا الصمت والامتناع عن إبداء الرأي حتى صار صعباً عليهم الخروج منه”.
في ظل كل هذه المشاعر المتناقضة تقول أبو نادر “يصعب تحديد الوقت الذي يتطلبه خروج الشعب السوري منها. وفي علم النفس هناك ما يُعرف بالتروما التراكمية اي أن كل تروما يعيشها الفرد توقظ عنده ما عاشه من صدمات سابقة على مدى طويل. فمشهد السجون وما ظهر فيها من فظائع وصلت حدّ التلذذ بتعذيب وإذلال الآخرين والتفنن في ابتكار أدوات السادية أيقظ كل الصدمات السابقة التي عاشها الشعب السوري”.
يمكن لهذه المعاناة التي تعرض فيها الشعب السوري لعنف نفسي وجسدي أن تولد في النفوس الرغبة في الانتقام أو السعي الدائم للعدالة وسوق المجرم إلى المحاكمة ليشفى غليل الضحايا، لكن توجيه الغضب والانتقام ممن كان سبب التعذيب قد يكون صعباً لذا قد يتوجه الغضب المكبوت نحو الذات ويتحول إلى أمراض جسدية يمكن أن تؤدي إلى الموت وقد نسمع الكثير عن سكتات قلبية وموت فجائي.
تعافي الشعب السوري يتطلب أكثر من حلقات دبكة وهتافات وحتى شتائم وانتقام، هو بحاجة أن يعيش حداده، أن يتقبل ويهضم ويتخطى ما عاشه ليتمكن من المضي قدماً في حياته. وهذا يتطلب متابعة نفسية وجلسات حوار ودعم نفسي كبير لشعب لم يكن مهيئاً للخروج من سجنه الصغير والكبير، ولا بد من العمل على إحياء الرغبة في الحياة في نفوس من شعروا لعقود طوال أنهم عاجزون واستسلموا وما عادوا راغبين بالمقاومة.
فالطفل الذي لا يعرف العصفور والسجين الذي أبهره الضوء بحاجة للدعم والأمان للعودة إلى الحياة والمجتمع.