ستكون الأشهر الباقية من العام 2021 حسّاسة جداً بالنسبة إلى لبنان. فيها سيتقرَّر الاتجاه: كيف سيتمّ الحدّ من سرعة الانهيار؟ وبأي ثمن يمكن وقفه أو تنظيمه على الأقل؟ وفي تقدير العارفين، أنّ ملامح المرحلة الآتية بدأت تظهر وتتسارع، و»الطبخة» على النار، والقوى الدولية والإقليمية كلها تتولّى إخراج تفاصيلها: من واشنطن إلى طهران، ومن باريس إلى دمشق والرياض وعمّان.
فوجئ كثيرون عندما عمد الأميركيون إلى منح لبنان الرسمي ضوءاً أخضر «تنفيذياً» ليحصل على الكهرباء من الأردن وعلى الغاز من مصر، عن طريق سوريا. وبين المتفاجئين كثير من حلفاء واشنطن في لبنان. فالقرار الأميركي يُترجم تحوُّلاً عميقاً في السياسة، إيجابياً، نحو نظام الرئيس بشّار الأسد.
ظنّ البعض أنّ الأميركيين محشورون في الردّ على شحنات النفط الإيراني عبر الموانئ السورية إلى لبنان، ولذلك هم وافقوا براغماتياً على رفع العقوبات عن نظام الأسد في هاتين المسألتين فقط، النفط والغاز العابرين من سوريا إلى لبنان. ولكن، تبيَّن أنّ التحوُّل الأميركي أبعد من ذلك بكثير.
والتطورات التي تتسارع ويضطلع فيها الأردن بدور محوري، تؤكّد ذلك: في البداية، حُسِم الوضع الأمني في درعا. واليوم، أعاد الأردنيون فتح معبر نصيب مع سوريا. واستعيد التواصل بين البلدين اقتصادياً وسياسياً في شكل مكثَّف في الأسابيع الأخيرة. وقبل يومين، وصل إلى بيروت وفد أردني رفيع لتنسيق الخطوات المقبلة، ويستعدّ اللبنانيون لزيارات مقابِلة قريباً.
هذا الحراك يؤكّد المعلومات التي راجت أخيراً عن موقع قوي للأردن في المعادلات السياسية المقبلة في الشرق الأوسط. فهو البلد الوحيد، في الجوار، الذي لم يتأثر تقريباً بما سُمّي «الربيع العربي». والإشكالات التي شهدتها المملكة عولجت سريعاً وبدرجة عالية من الدقّة. ما أوحى بأنّ استقرار المملكة وثبات سلطة الملك عبدالله الثاني هما خط أحمر.
المعلومات تتحدث عن دور للأردن سيتنامى تدريجاً ويترك تأثيراته على المعادلات السياسية الإقليمية، في ضوء العوامل الآتية:
1- موقع الأردن الجغرافي على مثلث إسرائيل- سوريا- العراق والخليج العربي.
2- موقعه كحلقة ربط في خريطة الطاقة، والغاز خصوصاً، بين الشرق الأوسط وأوروبا.
3- تركيبته الديموغرافية الحسّاسة، نظراً إلى احتضانه ملايين اللاجئين الفلسطينيين ثم السوريين.
4- العلاقات المتوازنة التي احتفظ بها الملك دائماً بين الغربيين وداخل المنظومة العربية إجمالاً، والتي تسمح له بأدوارٍ في التسويات.
عند انطلاقة «الربيع العربي»، اعتقد العديد من المحللين أنّ الأردن سيكون بين الدول الأكثر هشاشة، وأنّ نظام الحكم فيه سيهتزّ سريعاً بسبب هذه العوامل. ولكن، سرعان ما أثبت هذا البلد مناعة استثنائية. واليوم، يتضح أنّ هناك دوراً يُراد أن تؤديه المملكة والملك. وهذا الدور هو الذي وفَّر لهما الحماية.
الأردن أعلن، قبل أيام، فتح المعبر المقفل مع العراق أيضاً. وجاء ذلك ثمرة لقاءات أردنية- عراقية مكثفة خلال الصيف، بدأت بقمة ثلاثية أردنية- مصرية- عراقية في حزيران، واستؤنفت بمشاركة الملك عبدالله الثاني في «مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة»، نهاية آب، ثم بحضور الأردن المؤتمر الوزاري.
لكن اللافت هو زيارة رئيس مجلس النواب الأردني عبد المنعم العودات لبغداد، قبل شهر، والتي التقى خلالها قيادات عراقية، بينها مصنفون حلفاء لإيران. وكذلك، قام العودات بزيارة إقليم كردستان الذي تربطه بالأردن علاقة خاصة. وسبق لرئيس الإقليم نجرفان برزاني أن زار عمّان في أواخر حزيران وأجرى محادثات مع الملك في قصر الحسنية.
هذه التطورات تؤشّر إلى وجود غطاء أميركي للملك الأردني في الاضطلاع بدور متوازن بين المحاور المتصارعة في الشرق الأوسط وتسهيل التسويات، ومنها: التسوية السياسية في الداخل السوري، والتسوية بين سوريا وسائر المنظومة العربية. وهذا ما بدأ تحضيره اليوم.
أكثر من ذلك، يتحدث العارفون عن دور حيوي وافق الأردن على الاضطلاع به في تسوية الصراع مع إسرائيل، خصوصاً في ما يتعلق بملف اللاجئين. وهذا الدور يُقابَل بمنح العرش الأردني أوراقاًَ مهمّة على مستوى الشرق الأوسط ككل. ومعلوم أنّ الأردن ولبنان هما البلدان العربيان المعنيان خصوصاً بملف اللاجئين الفلسطينيين.
ويستفيد عبدالله الثاني من علاقات شخصية متينة مع الرئيس الأميركي جو بايدن. وثمة معلومات عن نية واشنطن لزيادة حضورها في الأردن خلال المرحلة المقبلة، انطلاقاً من الثقة التي توليها للملك في معالجة ملفات شرق أوسطية شائكة، ومنها الملفان السوري واللبناني.
ويتردّد أن عَمَّان ساهمت في إقناع بايدن بـ»تعويم» الأسد في سوريا، باعتباره الخيار الأفضل لمنع إيران من السيطرة على القرار هناك. وهذا الرأي يدعمه العديد من العرب والأوروبيين الذين لم يقطعوا علاقاتهم المعلنة أو المستترة بنظام الأسد خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 2011. وقد تجاوب الأميركيون مع هذا الطرح. وهو ما تُظهِره التطورات.
في المرحلة المقبلة، سيُمنح الأسد تغطية أميركية لنظامه في الداخل، وسيسهّل له الأميركيون أن يستعيد علاقاته مع الخليجيين، مقابل موافقته على الابتعاد عن النفوذ الإيراني. ويُراد أن تكون سوريا جزءاً من منظومة اقتصادية شرق أوسطية تضمّ مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وربما العراق ولبنان لاحقاً، ولن تكون إسرائيل بعيدة عنها.
إذا وجد الأسد أنّ الصفقة تناسبه فسينخرط فيها. وأما لبنان المنقسم على نفسه والمنهار اقتصادياً فلن يستطيع إثبات نفسه- كما الأردن- لاعباً على الطاولة. ولذلك، سيكون عرضةً لخطر «التلزيم» إقليمياً ودولياً كما حصل مراراً. ولن يعترض الأسد على أي دور في لبنان إذا تمّت الصفقة.
لذلك، اللحظة التي سقط فيها التكليف من يد سعد الحريري يمكن قراءتها بتعمق، باعتبارها إعلاناً للدخول في مرحلة جديدة. ومقاربة الحكومة الميقاتية للعلاقات مع سوريا ستكون بمثابة بوصلة. وأما الانتخابات النيابية التي تَقرَّر إجراؤها في 27 آذار، في هذه الحال، فسيكون مكتوباً لها أن تكرّس الوقائع الجديدة.