Site icon IMLebanon

البسيكوبات المنتصر

 

 

«النذل وقتن حكم صبح الأمان بقشيش والغدر وقت الحكم يقدر ولا يعفيش والحرّ مهما انحكم للغدر ما يوطيش» (الأرغول ـ أحمد فؤاد نجم)

 

كانت جَدتي تردّد قولاً كلما ذُكر اسم أحد «البلطجية» المعروفين وهو «السفيه، اكتفيه»، بما معناه أن تتعامل معه على أساس أنه قادر على الأذية أو التخريب، لذلك فعلى الجميع أخذه في الحسبان اتّقاء لشرّه.

 

في التعريف النفسي لشخصية «البسيكوبات»، فهي شخصية فاقدة القدرة على التعاطف مع الآخرين، مع عدم الشعور بأي ندم عندما تخرق القواعد الانسانية العامة، مع الحاجة الى تحصيل اللذة مباشرة من كل عمل تقوم به، بالاضافة الى قدرة فائقة على التلاعب بالآخرين واعتبارهم مجرد أدوات في سبيل تحقيق الرغبات.

 

لا يشعر «البسيكوبات» بأي ذنب أو ندم على أي أذى يتسبّب به للغير، وعلى العكس فهو يسوغ كل ما يفعله مهما كانت خطورته ويلقي المسؤولية على الضحايا. من الصفات الأخرى الملازمة يأتي الكذب المرضي والخداع والاخلال بالعهود، مع سحر هامشي وقدر واضح من الذكاء. لكن في الاجمال فإنّ البسيكوبات يعتبرون من النوع «المفترس» من البشر، وكثيرون منهم يصرّحون أنهم يتمتعون بصفات إلهية (أو انهم هم آلهة) تسمح لهم بالتصرف بالبشر الآخرين كأدوات، ما يعطيهم حرية التصرف بنزق مفرط من دون الخوف من العواقب. لا يتورعون عن ارتكاب أعظم الجرائم في سبيل تغطية ارتكاباتهم السابقة، يعني تغطية الجريمة بجريمة أخرى.

 

في لقاء مع أحد المبعوثين الأوروبيين، صرّح للنواب الموجودين في فندق فينيسيا أيام موسم صيد النواب سنة 2007 بأنّ لسوريا مصالح يجب مراعاتها في لبنان، لذلك فإنه على قوى 14 آذار أن تتعامل مع هذه الحقائق بواقعية. وعندما تفاقم الجدل حول الموضوع، قال المبعوث الأوروبي: «بصراحة يجب مراعاة مصالح سوريا في لبنان لأنها قادرة على التخريب من خلال الارهاب، ومن خلال المعارضة السياسية للأطراف المرتبطة بها، ومن خلال التحالف مع «حزب الله»، أما انتم فلا قدرة ولا رغبة عندكم في المواجهة بالمثل».

 

في الواقع، إنّ المسار الذي اتخذه النظام السوري منذ انتهاء حرب الاستنزاف مع اسرائيل عام 1974، يؤكد انّ هذا النظام يتصرف على أساس ان كل وسائل إثبات الوجود الاقليمي والعالمي مفتوحة له، خصوصاً بعد ان تأكد من خلال نتائج حرب 1973، وبعد وضوح المسار المصري نحو التسوية مع اسرائيل، انّ قدرات النظام على تغيير المعادلة السياسية والعسكرية من خلال التنافس الطبيعي الاقتصادي والعسكري غير متوافرة له. فهذا النظام، وبسبب طبيعته البنيوية، غير قادر على الخوض في عملية إنماء شفافة، مع المحافظة، وفي الوقت، على ترتيبة النظام الديكتاتورية. كما انّ هذا النظام استعمل في الداخل مزيجاً من الفساد التراتبي والعسف الأمني لتأمين استمراريته. هذا ما أعاق في شكل مرض عملية إنتاج النخب السياسية والاقتصادية والعلمية القادرة على قيادة الحراك الاجتماعي في سوريا. كما أنه منع إمكانية إنماء اقتصادي، مع ما يستتبعه من إنماء في كل الميادين الأخرى. لقد كان كل تأخير أو فشل في هذا المضمار تُنسَب أسبابه الى «المؤامرة الامبريالية والصهيونية» وعلى عملائهما، في ما عرف بالشعارات الخشبية التي رفعها هذا النظام على مر العقود الماضية.

 

لقد احتاج النظام السوري الى تطويع الداخل من خلال حملات الاعتقال والاضطهاد، والذي أدى الى حالة من فقدان الشعور الجماعي لدى الشعب السوري نتيجة لعملية التيئيس المُبرمجة حتى صار هذا الشعب يخاف من أي تغيير لئلّا يكون أكثر ظلماً من واقع الحال. وككل الأنظمة الشمولية، فقد وجد النظام السوري في لبنان الساحة الخلفية المثالية للتغطية على وضعه الداخلي. وقد كانت ممارسته في لبنان منذ ما قبل الدخول سنة 1976 وحتى ما بعد الخروج من نيسان 2005، الى الآن مثالاً لتصرف البسيكوبات مع طرائده. لقد مارس النظام السوري مزيجاً من الارهاب والابتزاز والفساد ليسمّم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان، وقد كان لبنان الطريدة المثالية بسبب تركيبته المعقدة التي وضعته في مهب الريح على مدى تاريخه.

 

لقد أثبتت التجارب انّ المسار البسيكوباتي هو مسار كارثي ينتهي عادة بانكشاف البسيوكوبات، ولكن مسار النظام السوري، وعلى رغم من المآسي التي تسبب بها على مدى العقود الماضية، يبدو انه تكلل بنجاح منقطع النظير، بدليل استمراره في الوجود،على رغم من دمار سوريا وموت نصف مليون بشري وتهجير نصف الشعب السوري، وتراه اليوم مُمسكاً بأوراق جديدة هي الشبق الروسي للهيمنة، ومن ثم الابتزاز المتجدد على طريق العلاقة مع إيران و»حزب الله»، وهذا ما قد يمهّد لخديعة س- س مستجدة بدأت بوادرها تلوح في الأفق. إذا كان نظام الهيمنة العالمي يستعمل عادة مبدأ العصا والجزرة، فإنّ النظام السوري اقتصرت سياسته على عصي الارهاب في التعامل مع العالم مستمداً قوته من القدرة الفائقة على التخريب والقتل والتلاعب على التوازنات.

 

انّ هذا الأسلوب الذي يعتمده العالم في مكافأة المجرم لمجرد قدرته على التمادي في إجرامه قد يكون من اكثر الرسائل سلبية للناس، فهو قد يشكّل دعوة مفتوحة للأنظمة البسيكوباتية لممارسة هواياتها من دون خوف من العقاب.