Site icon IMLebanon

غلطة حكيم

 

لم يكن سكان منطقة سن الفيل – الجديدة القريبة من العاصمة بيروت بحاجة الى استعراض القوة وسماع أصوات المدافع الرشاشة مساء يوم الاحد الماضي أول الاسبوع، ذكرى اغتيال الرئيس اللبناني والتاريخي بشير الجميل، ليتذكروا مجدداً ويشهدوا على انّ مطلقي النار، اللاجئين الى استخدام القوة الاستعراضية، يتقنون كيفية اطلاق النار في الهواء، وان لم يصيبوا برصاصهم بعضهم البعض، والحمدلله، بل اصابوا ابنية وحيطان الباطون التي يتألّف منها مجمّع ميرنا الشالوحي في تلك المنطقة التي روّعها المسلحون من «لبنان القوي» و«الجمهورية القوية» بنيران رشاشاتهم.

 

كما انّ سكان منطقة الاشرفية، اي مواطني المنطقة الشرقية من بيروت، لم يكونوا في تلك الليلة بحاجة الى ان يقوم من ارتدوا القمصان السود على غير عادتهم بعرضهم العسكري غير المسلح في شوارع الاشرفية، ليذكّروا اهلها بأيام الحرب الاهلية، وحروب الآخرين على لبنان، في ذكرى اغتيال امل اللبنانيين بدولة القانون، الرئيس بشير الجميل، الذي حلم معهم بقيام دولة المؤسسات واحترام الآخر، التي ارسى معالمها الرئيس فؤاد شهاب.

 

طالما انتقد اللبنانيون في الماضي التظاهرات الاستعراضية لأولئك الذين ارتدوا في الماضي القريب (7 أيار 2008) هذه القمصان السود، وأرعبوا أهل الجزء الغربي من العاصمة، الى ان صار المنتقِدون، منتقدين على اتباع هذا الطريق، وان في بداياته، والقيام بمثل هذه العراضة في شوارع الاشرفية.

 

لقد احسنت عائلة شهيد لبنان الكبير، الذي حُرم اغتياله من ابسط حقوقه، بإجراء تحقيق دولي بجريمة الاغتيال الفظيعة التي لا تُغتفر، في خطوتها إبعاد هذه المناسبة الوطنية الاليمة عن مظاهر الاستغلال السياسي والحزبي كما حصل اليوم، وكما كان يحصل في الماضي، وإنقاذها من جشع الطامحين الى زيادة مراكز نفوذهم، وتلميع صورهم، وتعظيم وجاهاتهم، خلافاً لكل ما كان يؤمن به ويعلّمه لمواطنيه، بتواضع ذلك الرئيس الشاب شهيد لبنان بشير الجميل، فأقامت للمناسبة قداساً وصلاة امام ضريحه في بكفيا مسقط رأسه، فيما لجأ بعض رفاق دربه من قواته الى اقامة المناسبة في الجميزة بكنيسة الروم الكاثوليك بعد عراضة الاشرفية، ومن ثم الانطلاق نحو الشمال، مروراً بمجمّع ميرنا الشالوحي مقرّ تكتل «لبنان القوي» وكأنّه موقع معادٍ «للجمهورية القوية».

 

يا عيبنا.. هذه العبارة تبادلها اللبنانيون وسكّان المنطقة خلال وبعد موقعة مجمّع ميرنا الشالوحي، حيث لم تنفع في محو آثارها وإزالة تداعياتها محرّكات الإطفائيين ابراهيم كنعان وملحم الرياشي، التي زيّتاها وأداراها بسرعة، لوضع حدّ لهذه الهجمة التي اعتُبرت اكثر من دعسة ناقصة، مهما حاول المبيّضون تبييض صورتها البشعة.

 

وبصرف النظر عمّن ارتكب خطيئة هذه الغلطة الفظيعة، تبقى لا تُغتفر لا بل «غلطة حكيم»، خصوصاً انّها ارتُكبت في اجواء الحزن الذي لا تمحوه الايام والاحداث، على استشهاد ذاك الرئيس الشاب والزعيم اللبناني القائد المميّز الرئيس بشير الجميل. والخطأ الخطيئة ارتُكب في ظلال اجواء الحزن الذي ما زال يخيّم على بيروت ولبنان، وعلى مدى انتشار اللبنانيين في هذا العالم، من جرّاء الجريمة الأفظع المُرتكبة بحق الوطن وعاصمته، بتفجير واحراق مرفأ العاصمة التاريخي، وتدمير مساحة تراثية لا تُقدَّر بثمن من تاريخنا وعظمة بيروت في هذا الشرق، وتشريد اهلها.

 

نزاع الاخوة، مقيت مرذول من الشعب، ومدان، سواء كان في بيروت الشرقية، اذا صحّ التعبير، بين الاخوة في «التيار» و«القوات»، ام في بيروت الغربية بين الشقيقين الرئيس سعد الحريري وبهاء الحريري. هذا النزاع حول تقاسم ما يعتبرونه حصصاً على فتات الحكم والحكومة والزعامة ووجاهاتها في لبنان.. لبنان هذا الذي يحتاج اليوم، اكثر من اي يوم مضى، الى ان تحاول زعاماته ومن تُدعى احزابه وكتل جمهورياته القوية، الى تشكيل غرف عمليات من اختصاصييها، والعمل ليل نهار، لوضع خطط إعادة تأهيل واعمار ما دمّره ذلك الانفجار المروّع، من قلب اجمل عواصم هذا الشرق وأغناها فكراً وطاقات ثقافية وفكرية واقتصادية وفنية، منتشرة بروائعها ونتاجها في طول هذا الشرق العربي وعرضه، لا بل في العالم كله.

 

لبنان اليوم في ظلّ هذا الواقع الأليم، لا بل المأساوي الذي لم يعرف تاريخه مثيلاً له، في حاجة ماسة، البارحة قبل اليوم، الى ان ينفض الغيارى من مسؤوليه وسياسييه واحزابه الشابة وقياداته السياسية والعلمية، غبار الدخان الاسود الملوث الذي خلّفه عدد لا يستهان به من اركان الطاقم السياسي والحزبي والميليشيوي الذي حكمه، وفي ما فعله في الماضي، خصوصاً في السنوات الثلاثين الاخيرة، في الخزينة الفارغة المُدينة، والدولة التي تكاد تنعى من بناها، وسرطان الفساد المستشري في جسم البلد طولاً وعرضاً وفقدان الثقة والشعور بالمسؤولية لدى معظم المسؤولين في القطاعين العام والخاص، وفي مرض الطائفية المصاب به الطاقم المنتظر، فضلاً عن الكورونا، ان يكون قائداً، لا منقاداً من جهات خارجية.

 

لا يجب ان يعرف اللبنانيون، كما هو حالهم اليوم، انّ قادة وزعماء دول صديقة او شقيقة للبنان، غيارى على مصلحة لبنان ومستقبله اكثر بكثير من غيرة قادة البلد اصحاب هذه المصلحة. لأنّ هذا عيب. اذ يثبت هؤلاء القادة يوماً بعد يوم غيرتهم هذه بشتى الطرق، فيما اهل البيت لاهون بأمور كثيرة، ويعرفون سلفاً انّ المطلوب منهم واحد، ألا وهو طيّ صفحات الماضي ونفض غباره، وفتح صفحة جديدة للبنان جديد، اتقاء للعنة التاريخ.

 

فالتاريخ لا يرحم.