IMLebanon

العودة عن الشفير؟

“النعامة طير لكنه لا يحلّق

قائل

ما تعارفنا على تسميته “دولة” هو مجموعة عبقريات وإنسانيات تحوّلت مع الزمن والممارسة إلى بديهيّات. القانون الذي وضعه أمبراطور، صار ينفّذه شرطي. والتنظيمات التي وضعها حامورابي لعصره، صارت تقاليد وعادات في العصور التالية.

قٌسِّمَ العالم خلال مراحل متعاقبة على تصنيفات مختلفة. مرة “الحلفاء” و”المحور”، ومرة الاشتراكية والرأسمالية. ومرة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وحلف شمال الأطلسي وحلف فرصوفيا، ومرة الكتلة الافرو – آسيوية. ودائماً الشرق والغرب. لكن الحقيقة الوحيدة كانت دائماً، دولة، أو لا دولة. هذا وحده يُميّز البشر منذ أن حدثت الدولة للإنسان. صارت هي مَن يحميه، بدل القبيلة أو زعيم الإقطاع. وصارت هي تضمن علاجه وشيخوخته، وتنظّم له شؤونه، وتحرُس أملاكه، وتُعلّم أبناءه، وتُنظّف طرقاته وتردّ عنه دواعش السير.

تناقص العنف مع تصاعد دور الدولة وتوسيعه. في القرون الوسطى كان هناك 40 قتيلاً في السنة لكل مائة ألف نسمة. الآن هناك عشرة، غالباً في دول كالصومال. أما في الدول التي تنطبق عليها التسمية، فالنسبة واحدة إلى كل مائة ألف.

إذن، الفارق هو في التسمية، أو في صحّتها. ففي القرن الماضي أقدمت “أجهزة الأمن” على قتل الملايين من مواطنيها في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وخصوصاً في ظلّ الديكتاتوريات العسكرية كما في البرازيل والأرجنيتن، وتشيلي أغوستو بينوشيه. العام 1945 كانت بريطانيا تحكُم ربع العالم، ثم تقاعدت الإمبراطورية وانحسر التاج إلى “الجزر البريطانية”. وقامت مكانها ومكان الإمبراطورية الفرنسية، دول متنوّعة الكفايات والهفوات. مثلاً، عُمان وسنغافورة والهند. ومثلاً، اليمن ونيجيريا وبورما، التي دخلت أخيراً، الأسبوع الماضي، عصر الديموقراطية، وأنهت الديكتاتورية بكل هدوء في صندوق الافتراع.

تلاشت الدولة في العالم العربي مع تلاشي العمل بالقانون المدني وزوال فكرة الدستور. كلما وقَع انقلاب وعُلِّقت المشانق، كانت تُعلَّق أولاً مشنقة الدستور، وتُعلن مكانه الطوارئ والاحكام العرفية. ثم تُنسى معلّقة. وعندما تظلّ الاحكام العُرفية قائمة طوال أربعين عاماً، ينسى الرجل ليس فقط مواد الدستور، بل أسماء أبنائه أيضاً. ولا تعود المسألة على جدول القضايا في حياة الناس. بل يُصبح الحديث في القوانين ترَفاً مضحكاً، يتندّر به رؤساء المخافر ورُقباء المطبوعات.

من بغداد إلى بيروت، ليس هناك شيء يربط الناس، يُدعى القانون والدستور والحقوق، أي ما مجموعه الدولة. “الجيش الرابع في العالم” فقَد نصف العراق لمجموعة ميليشيات، بعضها يُحارب معه، وبعضها الآخر يحتلّ مدنه الكبرى. ميليشيات، بعضها من القوقاز، هدّدت ذات مرحلة عاصمة الأمويين وعاصمة العباسيين. وفي لبنان، الجمهورية الوحيدة التي تجاوزت الانقلاب العسكري، شكلياً على الأقل، على رغم حكومتين عسكريتين، عُلِّق الدستور من دون بلاغ رسمي بذلك. لذا، عندما يُصرّ حزب مثل “الكتائب” على التمسّك بالدستور، يبدو الأمر ممتعاً، من حيث الحنين. على الأقل. لن يقول أحد لسامي الجميل “انقعو واشرب ميتو” ولكن أيضاً لن يتحمّل أحد إبلاغ اللبنانيين أن الدستور الذي لا يُلزمهم انتخاب رئيس للجمهورية، منقوع في الخلّ مثل اسفنجة المسيح، ساعة طلَب شُربة ماء، لعطْشة الموت، وعُطاش النزْف.

بعد الحرب العالمية الثانية، قامت موجة هائلة من الاستقلال، ولكن من غير أن تتمتع المجموعات الجديدة بمؤهّلات الدولة أو طموحها أو واجباتها. ترك جوزف موبوتو رجال الشرطة في الكونغو يتدبّرون رواتبهم من الخوّات التي يفرضونها على مَن اتفق. ولا يزالون. وفي ليبيريا، لم تتغيّر وتيرة القتل في الأدغال وفي الشوارع بين صمويل دو وتشارلز تايلور. وفي باكستان، المفصولة دموياً عن الهند، تحوّل شرق البلاد إلى بنغلادش، وربح الجيش فقط الانقلابات والقتل من أيوب خان إلى ضياء الحق(!) إلى برويز مشرّف. وقد التقيت الجنرال مشرّف في أحد فنادق نيويورك. ويبدو أن همومه الوطنية كانت تأخذ عليه فكره، فهو يريد ضمّ شقة كبرى إلى شقته في لندن بحيث تتلاءم مع هيبة العمل من أجل الانقلاب المقبل.

معاذ الله أن يخطر للمرء أن الاستعمار والاستعباد كانا أفضل من الاستبداد الوطني الكاسر، أو من فوضى الفساد وعتْم الجهل. هذا تماماً مثل القول إن ظلم القذافي كان أفضل من قهر 17 فبراير. خيارات الشعوب ليست بين الأسوأين، بل بين الدولة واللادولة. بين دولة 1943 وأحوال 2015، حيث الممنوع هو انتخاب رأس للجمهورية، والطبيعي هو إبقاء الناس بين تلال القمامة وألوان البلاستيك، الذي يُحظّر بيعه الآن في بلاد البشر.

الرموز اللبنانية الكبرى كانت فلاسفة الدولة وحكماءها. العسكري فؤاد شهاب الذي أنشأ “مجلس الخدمة المدنية”. المفكّر ميشال شيحا الذي رأى أن الميثاق لا يمكن أن يعيش إلاَّ في دولة حديثة. دولة قوّتها في السِعة بين مكوّناتها. ليس ميثاقاً بين أقوياء وضعفاء، أكثريات وأقليات، أغنياء وفقراء، لأن ما من بناء يقوم على الهوّات والفروقات، وإنما ميثاق بين متحرّرين من الجشع والتسلّط وفحش الإلغاء والاستكبار.

ارتقى بوذا إلى اسمه، أي “المستنير”، عندما تحرّر من الجشع. الجامع بين نظريات ميشال شيحا وإصلاحات فؤاد شهاب، أن كليهما حاول بناء دولة لسواه، لا لنفسه. و”سواه” هنا تعني سائر الناس، الذين يذهبون إلى أي معبد يشاؤون، ثم يطبِّقون قانوناً مدنياً واحداً وينتظمون في دستور واحد يدعم معانيه الميثاق.

فِكِر شيحا وخُلُق شهاب كانا أوسع من ضيق الأنانيات والرؤية التي تنتهي عند نهاية الأنوف. شارل حلو كان تلميذ ميشال شيحا وداعيَة فؤاد شهاب. لكنه لم يملك مثلهما قوة الإيمان بالدولة. كانت له جملة شهيرة تعبّر تماماً عن تكوينه: “صفوْ خاطرك”! لكن إرضاء جميع الخواطر محكوم باستدعاء الكثير من الأخطار. بدأ سقوط الدولة رسمياً معه عندما جيَّر سيادتها على أرضها وقوانينها، إلى استقواء منظمة التحرير. وأصبح مركز القوة في البلاد في الفاكهاني، لا في القصر ولا في البرلمان ولا في السرايا. ومنذ ذلك الوقت، اعتادت الدولة أن تعيش خارج مواقعها وخارج قوانينها وخارج نطاق الوطن ومعاني الدستور. ولم يتوقف الانهيار.

تعدّدت وتنوّعت وتغيّرت مراكز القوى في حصار دولة فاقدة القرار وعاجزة عن تطبيق القوانين. ومراكز القوى حوّلت الدستور إلى باعث صراعات ومبرّر نزاعات، بدل أن يظلّ السارية الموحِّدة. والآن هو دستور ميّت لم يحدّد موعد جنازته. ومن حوله فَقدت المؤسسات الوطنية الكبرى رمزيتها، باستثناء الجيش، الذي لم تُغره كل المبارزات الهوائية بالسقوط في لغة القسمة. والمؤسف أن الرموز غير الحكومية فقدت هي أيضاً المعاني التاريخية التي كانت تمنحها قوة موازية لوسائل الحكم وأدواته.

لا تستطيع التعامل في الأشياء الصغيرة، وتحافظ على كِبرك. فن القيادة وسرّها، إتقان علم المسافات. الفارق بين التكبّر والترفّع، كالفارق بين الغطرسة والأنفة، بين الشجاعة والوقاحة، بين الصراحة والفجاجة. الدول أصول، عندما تسقط ذرّة، تتبعها حصوة، يتبعها حجر، فإذا الجميع في الرُكام.

انهارت الدول من حولنا بسبب سوء تفسير القانون. اعتقدت أن القانون هو التسلّط، والدولة هي القسوة، في حين أن القانون هو العدالة، والدولة هي المساواة. وهي البحث الدائم عن التطوّر والنمو والتحسّن. وإلا النقمة والفوضى والخراب. مفهوم الدولة في الشرق، عند المواطن والحاكم، أنها عدو. تأخذ منه كل شيء ولا تقدّم له شيئاَ. لكن مفهومها الحقيقي أنها تأخذ منه القليل وتقدّم له كل شيء. منها، على سبيل المثال، تنظيف الشوارع التي يمرّ بها، وردّ خطر الأوبئة عنه، وحماية اقتصاده ومعيشته، والعناية برفع مستويات التعليم وأوضاع المعلمين وحاجاتهم، وإعطاء وزارة التربية لاختصاصيين همومهم مستوى الأجيال الطالعة من كل الفئات، ومنعهم من تعاطي السياسة، وخصوصاً المُوحل والضّحل منها.

توقفتُ، مثل جميع اللبنانيين، على ما أعتقد، عند دعوة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، إلى تسوية وطنية. لعل فيها مبادرة إلى استعادة الدولة قبل أن يدخل الانهيار مرحلة اللاعودة. تحمل الدعوة الآن الكثير من الأمل، بعد تلك المناخات التي جعلته يوجّه في الماضي دعوة مختلفة: “تعالوا أيها الإخوان نتقاتل في سوريا”. المصالحة أحبّ من القتال. والوحدة فرَج.