لا يدرك المرء مدى مودة وأخوّة الأصدقاء، إلاّ بعد ذلك الغياب القهري الذي قد تفرضه حالات صحية طارئة، تاركة المجال واسعا أمامهم للتساؤل عن غياب كالذي طاول مقالاتي في جريدة اللواء الحبيبة التي باتت الإطلالة الإعلامية منها عزيزة على نفسي، وعلى قلمي وعلى توقي للتواصل مع الأخوة القراء ورفاق الفكر الواحد والغايات الموحدة، فاذا بعلاقاتهم معي تتضاعف وتتفاعل، وإذا بتحياتهم ودعائهم لي بالشفاء، لفحة قادمة من شاطيء أمين من التعافي والصحة والعودة إلى أجواء السلامة والتلاقي الفكري والإجتماعي والسياسي مع أخوة لطالما اشتد الرباط بهم في مراحل عديدة من هذه الحياة الحافلة بالأحداث والتطورات والمفاجآت، وكم كانت فترة الأسابيع الماضية القاسية التي قضيت أوقاتاً منها في المستشفى، حافلة بأحداث جسام لكم كان الود يداخلني لأكون مواكبا لها وفي صميم إطار معالجتها خاصة وأن أحدها على الأقل، قد فاجأ الجميع بكمٍّ من الوقاحة غير المتوقعة على الإطلاق، حتى بات الرئيس الأميركي السابق أوباما « بطلا» في زوايا معالجته للأحداث في الوقت الذي كان فيه في الواقع رئيسا متخاذلا متراجعا ترك الأمور العامة، الدولي منها والمحلي، يأخذ مجراه المنفتح على شتى أنواع التخاذل والتهاوي، والآن، بعد أن أطل علينا الرئيس ترامب «بطلعته البهية» ووقاحته الندية، وعدائيته للقدس والإسلام والمسيحية، الى هذا الحد المفرط الذي لمسناه وتعذرت نفوسنا في مدى مغالاته ووقاحته، فلا شك أننا شديدو السعادة بما تلقاه حتى الآن نتيجة لموقفه الساقط والمخزي في قضية القدس، حيث أن إجماعا دوليا كاملا تلقاه داويا من مجلس الأمن متضمنا ثمانية عشر صفعة لم تترك للولايات المتحدة ولترامب إلاّ تلك الدوخة العارمة التي أصابت تلك الدولة التي ما زالت تعتقد أنها صاحبة الكلمة الأولى والموقف الأول والزعامة الشاملة في هذا الكون، وهو واقع يمثل بعضا مما كانت عليه يوم لم يكن لها في هذه الدنيا كلها من منافس طائل وقادر على خدش مواقفها وجموحها وعنجهيتها.
ففي الماضي غير البعيد، كان الإتحاد السوفياتي منافسها الوحيد على الأمساك بخيوط الزعامات المختلفة في هذه الدنيا الشاسعة، وها هو الإتحاد السوفياتي بعد زواله وتحوله إلى جملة من الدول المتشرذمة والمتنافسة وربما المتقاتلة، يثبت للقاصي والداني ألاّ دائم إلاّ الدايم، وأن أميركا تتنازع في هذه الأيام بعنف وشدة مع إيران ومع كوريا الشمالية، وبدرجة أخرى من النزاع، هي تتنازع مع دول الإتحاد الأوروبي ودول كبرى عديدة داخله وخارجه التي بشكل خاص، وجهت الصفعات المؤلمة لترامب وحبيبته إسرائيل، داخل مجلس الأمن وفي الأمم المتحدة وربوع العالم قاطبة، ولا تجد ما ترد به الصفعات الملهبة، سوى ذلك الفيتو اليتيم التي ردت به على صفعات العالم ودوله وقواه، وسوى ذلك التهديد بمنع تقديم المساعدات المالية والإقتصادية إلى كل دولة لم ترضخ للمطالب والأوامر الأميركية.
ومن الغريب أن ترامب يتذكر تلك المساعدات الهائلة التي قدمها له العالم العربي مؤخرا وهو يزهو حاليا بأن بعض الدول العربية قدمت له عطاءات كبرى لمساعدته شخصيا على النهوض بالوضع الإقتصادي الأميركي من المصاعب الحالية التي يواجهها، ولن تزعجنا كثيرا مواقف كالتي اتخذتها غواتيمالا، وملحقاتها المماثلة، والتي يصعب على كثيرين تسميتها بالدولة المتكاملة، فهي لا شيء تجاه المواقف الدولية والإقليمية والإسلامية الكاسحة التي وضعت ترامب ( ولو معنوياً)، في تلك الزاوية الضيقة التي يصعب على أية دولة كبيرة كانت أم صغيرة، أن تجد نفسها محشورة حتى العظم في ثناياها المؤلمة.
لقد جاء التصرف الأميركي، مناسبة غير منتظرة رغم التلميح لها مطولا من قبل المصادر الإسرائيلية والأميركية، ليعطي للأمة العربية ومعها الأمة الإسلامية، دليلا على كم هي في تراجع مذهل ومنذ عقود عديدة تجاه قضية فلسطين عموما والقدس خصوصا، دون أن نتنبه منذ بدايات تلك العقود التراجعية، إلى أن القدس ليست كأي مكان آخر من العالم وأية مدينةٍ رمز، تمثل الأديان السماوية جمعاء، وفي طليعتها الديانتان الإسلامية والمسيحية وهما دينا هذه البقعة المتراجعة من العالم المسماة بالعالم العربي، منشأ الدين الإسلامي الحنيف ومنطلق حضاراته التي امتدت قرونا متعددة إلى آفاق الدنيا بأسرها، كما انها المرجع الحيوي للدين المسيحي الذي يتخذ هو الآخر من القدس، ذلك المنشأ والرمز الذي يشغله منذ أجيال السيد المسيح عليه السلام، ويحاكي الكون من خلاله كدين سماوي متشبث بعلاقاته الأساسية بهذه المدينة التي كانت وما زالت، موقع العيش المشترك الأول في هذا العالم الشاسع الذي كلما زادت انقساماته وعثراته، كلما ازداد تشبثه بريادة هذا الموقع الروحي المشترك بين الأديان السماوية الأساسية.
ولا بد من التأكيد على ما نعانيه اليوم من انقسامات فادحة حول تصرفات ترامب المعادية لإتجاهات العالم بأسره. وفي مطلق الأحوال، دول العالم المشكّلة لمجلس الأمن وامتدادات الأمم المتحدة، هي دول باقية ماشاءالله لها من وجود واستمرار وبقاء، أما ترامب، فيبقى له حوالي العامين ويغرق مع سلفه الراحل أوباما في دنيا النسيان، فنذهب إلى القول والتأكيد، بأن الولايات المتحدة بعد ترامب، لن تكون نفسها تلك القوة العظمى الأساسية في العالم، ومن لم يصدّق هذا الكلام، فليسأل خاصة عما يجري خلف أسوار تلك الدولة القافزة بانتظام إلى العالم المقبل: الصين. daouknet@idm.net.lb