Site icon IMLebanon

«عُدنا الى أبجد»!

 

«عدنا الى أبجد»… بهذه الجملة المقتضبة، يُشخّص الرئيس نبيه بري المرض العضال المتحكّم منذ ايار الماضي بمسار تأليف الحكومة.

 

جملة تؤكّد فشل كل «الروشتّات» الطبية والسياسية التي وُصفت طيلة الاشهر الستة الماضية في إيجاد الدواء الشافي لهذا المرض، والتسبّب في انحراف الوضع الى ملامسة المحرّمات ودخول حقل الصلاحيّات المزروع بالمفخخات السياسية والطائفية والمذهبية.

 

أمام هذا الانسداد، يقول بري: كان يجب أن تتألف الحكومة خلال الايام العشرة التي تَلت تسمية الرئيس المكلف سعد الحريري، فلو تمّ ذلك لَما كان البلد وصل الى ما وصلنا إليه.

 

من خلفية «تعددت الافكار والحل واحد»، يتابع بري، وهو يشير الى «قاعة التمشاية» في عين التينة: ثمّة بارقة أمل ما زالت موجودة ولا أرى غيرها، هذه القاعة لها باب وحيد، يعني لها مخرج وحيد، وأزمة التأليف مثل هذه القاعة لها حل وحيد هو الذي طَرَحته على الوزير جبران باسيل، ويشكّل المخرج الملائم لهذه الأزمة (أن يتخلى رئيس الجمهورية عن الوزير السنّي من الحصة الرئاسية لصالح أحد نواب سنّة 8 آذار).

 

حلّ بري هذا، يشكّل، في رأيه، جسر العودة الى الرشد الحكومي، والوصفة الملائمة لمغادرة النقطة التي انحدَر إليها مسار التأليف. كما من شأنه أن يوقِف مسلسل الثرثرة المستمرة على ضفاف الحلول، التي لم تلامس حتى الآن ما هو جدي ونوعي منها.

 

مؤيّدو هذا الحل يستغربون أنه حتى الآن، ورغم الافق المسدود، لم تتم مقاربة الحل المطروح من قبل بري، بل انّ هناك من يَتقصّد عدم مقاربته، مفضّلاً استمرار الدوران في حلقة الافكار والمخارج الفارغة.

 

ما معنى «العودة الى أبجد»؟

معناها العودة الى نقطة الصفر، والصفر هنا محفوف باحتمالات مجهولة لم تشهد مثلها أشهر التعطيل الستة. أوّلها وضع ملف التأليف برمّته على الطاولة من جديد، يعني «من أول وجديد»، والدخول مجدداً في بازار المطالب والمعايير. صارت المسألة أبعد من تمثيل «سنة 8 آذار»، وأعمق من إصرار فريق على «الثلث المعطّل»، ومن «حصة وزارية مقدّسة» لهذا وذاك كأنها كتاب سماوي مُنزَل. إنها بلا شك مفتوحة، فقط على فراغ حكومي مديد، وتداعيات يخشى أن تصيب شظايا تعقيداتها أصل النظام، وفي الصميم.

 

التسوية بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري تعاني الاهتزاز، والسؤال كم ستصمد؟ وهل ستصمد أمام هذا الاشتباك الذي لم يعد صامتاً؟

 

ورغم حرص الرئيسين على استمرارها، هَزّها واقع أنّ عون بات يعبّر علناً عن ضيق من أداء الرئيس المكلف وانشغاله بالسفرات الخارجية وجعلِ التأليف همّاً هامشياً، ويُلوّح ببديل له، والاحتكام الى مجلس النواب عبر توجيه رسالة إليه. وواقع انّ بعض المحيطين يصبّون الزيت على النار «لا يستطيع عون أن ينتظر الى ما لا نهاية لكي يؤلّف حكومة في عهده»، بالتوازي مع مقولة ابتدعَتها ذهنية «بعض العباقرة» تروّج لتفسيرات دستورية تدعم فكرة البديل: «الضرورة صارت تحتّم اللجوء الى النواب لحسم الامور، فمَن منح صوته في الإستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة يستطيع ان يستردّه»!

والحرص على التسوية، لا ينفي استغراب الحريري من التحوّل المفاجىء لدى عون، فقد كانا حتى الأمس القريب منخرطين في علاقة ربيعية يُحسدان عليها.

 

ولا ينفي الشعور بالإهانة من بعض الكلام الانتقادي، وسَيل الاسئلة: بالأمس كانت الامور على أحسن ما يرام، وسبق لعون أن تضامَن مع الحريري في مسألة عدم توزير «سنّة 8 آذار»، والحريري شكره على هذا الموقف، ببيان، ولكن المفاجىء ليس موافقة عون على توزيرهم، بل تَناوله الحريري بالانتقاد السياسي وصولاً الى حديثه عن البديل. وَقْع هذا الكلام كان ثقيلاً جداً في بيت الوسط، وخلقَ حالاً من «التعصيب»، وشعوراً بالاستهداف. فكان الرد: «الدستور واضح، الرئيس المكلف يشكل الحكومة حصراً بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، ولن يخضع لأيّ تهديد، ولن يعتذر او يتراجع سواء أكانت الضغوط رئاسية او حزبية».

 

عون متمسّك باللجوء الى المجلس، وثمّة من يحاول إغراء الحريري بعدم الممانعة: «إنّ الاحتكام الى المجلس سيؤدي حتماً الى ثقة نيابية متجددة بالرئيس المكلف». إغراء غير مقبول في «بيت الوسط»، الذي ضبط إيقاعه تحت عنوان وحيد: «أي محاولة للالتفاف على الدستور وخَلق أعراف جديدة مرفوضة، والدخول الى عقر دار الصلاحيات السنية ممنوع، ونقطة على السطر»

 

الدستور يُجيز لرئيس الجمهورية توجيه رسالة الى المجلس، لكن إن كانت تطرق باب الاستشارات من جديد، فالعائق أمامها هو الدستور، ولن تكون لها قيمة قانونية او دستورية، بل العكس، لن يكون بنتيجتها سوى دفع العلاقة مع الحريري الى مزيد من التوتر. علماً انّ معنيّين بملف التأليف، كشفوا انّ الرسالة وجدواها سبق ونوقشتا قبل فترة، وخَلصَ النقاش الى أنها لا تفيد، وإن كان من حق رئيس الجمهورية ان يوجّهها الى المجلس، الّا انها بَدلَ أن تحل الامور فإنها تعقّدها أكثر».

 

المتحمّسون للرسالة والاحتكام الى النواب مجدداً، يرون انه لا يجوز ان يبقى الرئيس المكلف متحكّماً بعقارب الزمن، اذ لا بد ان يتم تقييده بمهلة زمنية للتأليف، على ما هو معمول به في دول اخرى. لكنّ رد المؤيدين لهذه الصلاحية السنية، يقول انّ تقييد الرئيس المكلف بمهلة معناه إعادة وضع الزمام الحكومي في يد رئيس الجمهورية الذي سحبه منه الطائف، علماً انّ هذا الموضوع أخذ نقاشاً مستفيضاً ومحتدماً في الطائف، ورفض السنّة بشكل قاطع تقييد الرئيس المكلف بمهلة للتأليف.

 

يقول احد صنّاع الطائف: «في الدستور ثغرات كبرى وخلل كبير ومواد لا بد من اعادة مقاربتها وتفسيرها وتوضيحها وتحديدها، وربما يكون تقييد الرئيس المكلف بمهلة للتأليف ثغرة كبرى تعتري الدستور ولا بد من سدّها، ولكن هل يحتمل البلد مقاربة الدستور في هذه الفترة، أو بالأحرى الدخول في مواجهة طائفية تعرف مُبتداها ولا تعرف منتهاها؟

 

يبقى انّ سؤالاً هو الأكثر تداولاً هذه الايام: هل ثمة بديل فعلاً للحريري؟ وإن لم يكن موجوداً، فما معنى الحديث طالما انّ الجميع مسلّمون بأن لا بديل عنه؟ وما هي الغاية من طرح أمور لا تؤدي إلّا الى استنفار العصبيات؟