بتاريخ 17 تشرين الأول، ولدت الإنتفاضة من رحم معاناة اللبنانيين من الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة وأحدثت صدمة بدخولها المفاجئ والقوي على المسرح السياسي اللبناني وباتت لاعبا» أساسيا» وثابتا» فيه. وهي تمثل ما يطوق إليه اللبنانيون للبنان يشبههم إفتقدوه، حتى أولئك اللذين لا يزالون سجناء في كايناتهم السياسية والطائفية.
لأول مرة، يخسر حزب الله «وقاره وحكمته ومصداقيته»، تلك الصفات التي طالما تغنى بها وأعطته الهيبة وصورة التنظيم الذي لا يخطئ ولا يقهر والذي يراكم الإنتصارات والذي ينفذ ما يعلنه من أهداف.
أما باقي أحزاب السلطة من تابعين له وشركاء «مضاربين» (أحزاب الثلاثي حريري، جعجع، جنبلاط)، فقد ضمر وضعهم الشعبي وفقد قادتهم-الآلهة بريقهم. من المهم هنا أن نؤكد أن هذا التحول لا رجعة عنه (Irréversible)، بمعنى أن هذه الكيانات السياسية لا يمكنها العودة إلى أحجامها و»جبرؤتها» السابقة، علما» أن الثلاثي يحاول القفز من «تيتانيك» السلطة للإلتحاق بالإنتفاضة آملا»-واهما» «طربشتها» حين يهدأ هديرها. وبفعلهم هذا، هم يعطلون تشكيل «حكومة أفضل الممكن» التي وحدها، يمكنها أن تنقذ «تيتانيك» لبنان من الغرق، أي تنقذه، ولو مؤقة، من ثلاثية الإفلاس، الفوضى والخراب (زوال لبنان الدولة والكيان).
منذ هذا التاريخ أيضا»، إختلط الممكن تحقيقه مع ما هو مستحيل التحقيق اليوم في ظل الظروف وموازين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
فلبنانيا»، لا يزال حزب الله في كامل عافيته العسكرية والأمنية مع متاعب مالية تخطاها حتى الساعة، وهو لا يزال ممسكا» بمناطق نفوذه حتى لو أن الإنتفاضة قد أزعجته نسبيا» في بيئته الحاضنة (وهنا يجب عدم المبالغة). وهو لا يزال ممسكا» بمفاصل الدولة: رئيس الجمهورية حليفه الإستراتيجي ويتمتع مع حلفائه بالأغلبية في البرلمان. أما مكونات السلطة الأخرى، فلا تزال تحتفظ بعناصر قوة لا يستهان بها. فهي تملك المال المنهوب أو الآتي من الخارج وهي تحتفظ بنفوذها في إدارات ومؤسسات الدولة أو التابعة لها من رؤوس أهرامها إلى قواعدها، نفوذ منبعه عشرات السنين من الفساد والزبائنية السياسية. كما أنها لا تزال تتمتع بشعبية ما وإن تقلصت بنسب «حرزانة» ومتفاوتة من حزب إلى آخر.
إقليميا»، مخاض عسير وأوضاع قلقة وفقدان الإستقرار داخل غالبية الدول وتوتر فيما بينها، وضع قد ينذر بحروب محدودة أو بحرب إقليمية شاملة تدفع بها دينامية التناقضات حتى دون أن يكون خطت لها بالضرورة زعماء الدول المعنية. وفي ظل هذا المشهد الإقليمي، إيران تعاني ولكن نظامها لن يستسلم ولن يسقط من الداخل في مواجهة إستراتيجية أميركا-ترامب القاصرة. حلفاء أميركا كافة قلقون ويعانون من قصور سياسة أميركا-ترامب في المنطقة.
دوليا»، أميركا-ترامب تتحكم بقرارات أوروبا وسياساتها تجاه لبنان. وأقل ما يمكن قوله أن هذه السياسة تنحو إلى ترك لبنان إلى مصيره بالحد الأدنى ودفعه إلى مواجهة سياسية غير متكافئة مع حزب الله بالحد الأقصى. وبالمقابل، يبدو دور روسيا محدودا» ودور الصين هامشيا».
وقد تزامنت الإنتفاضة مع بدء الإنهيار الإقتصادي-المالي-النقدي ونتيجة» له. فمن يتحمل مسؤوليته هو حزب الله لأنه أجبر ويجبر اللبنانيين على تحمل أعباء «إقتصاد المقاومة» وتلبية ضروراته الشرعية وغير الشرعية في الداخل بالإضافة إلى ما ينتج من ضرر متأتي من عدائيته لدول تلعب دورا» أساسيا» في وقوف لبنان على أرجله إقتصاديا». كما تتمحل مسؤوليته الطبقة السياسية الفاسدة التي نهبت المال العام طوال عشرات السنين تحت نظر حزب الله إن لم نقل برعايته، مراعاتا» لإستراتيجيته الإسلامية الإيرانية ولأولوية حروبه خارج الحدود.
للإنتفاضة هيئاتها التنسيقية بين بعض مكوناتها المنظمة أو شبه المنظمة ومجموعاتها المتعددة على الواتس أب وخيمها في الساحات التي تشهد محاضرات ونقاشات، ومناظراتها على بعض القنوات التلفزيونية والراديووات.
وقد أنتجت هذه التوصلات والتفاعلات بين أطراف الإنتفاضة، أكانوا كيانات أو أفراد، تنسيقا» عملانيا» رائعا»، أدى حتى الساعة إلى نجاحات عملية في مواجهة السلطة، كما أدى إلى توحيد للتوجهات السياسية العامة من وضع لآلية لإعادة إنتاج السلطة والتوحد حول ضرورة قيام سلطة مدنية عابرة للطوائف ومحاربة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة،… هذه إنجازات رائعة غير أنها غير كافية وهي تتطلب تحديد برنامج سياسي على مراحل لترجمتها على أرض الواقع يأخذ بعين الإعتبار موازين القوى وكيفية تغييرها، كما الآليات المادية الملموسة لتحقيقها.
لا شك أن الوضع في لبنان أعقد وضع في العالم لما يحتوي عليه من تناقضات داخلية متعددة ومتداخلة ومن تناقضات إقليمية ودولية لها تأثيراتها على المسارات الداخلية. لذا، لا يفي بالغرض إستخدام الوصفات الجاهزة لمراكز الأبحاث ولا التنظير السياسي ولا إستخدام مفاهيم عامة كالحوكمة الرشيدة والمحاسبة وصون حقوق الإنسان،…
المطلوب، التمييز بين الإستراتيجي والتكتي، كما بين ما يمكن ويجب تحقيقه الآن وما يجب تركه لمرحلة لاحقة.
وهنا لا بد من العودة إلى التذكير بالأساسيات:
أولا»، التمسك بالنظام اللبناني وليس إسقاطه. فالنظام هو الدستور والقوانين والمؤسسات الدستورية والإدارية والقضائية والعسكرية والأمنية. المشكلة تكمن بالطبقة السياسية الفاسدة التي خربت النظام والدولة. فالمطلوب إصلاح النظام وليس إسقاطه.
ثانيا»، التمسك بإتفاق الطائف الذي يمثل العقد الإجتماعي بين اللبنانيين ويححد ماهية الكيان اللبناني. المشكلة تكمن بأنه لم يطبق، ولا سيما بشقه السيادي من حيث يرزح لبنان تحت وصاية إيرانية مقنعة بوجه لبناني (أعني حزب الله)، كما بعدم تنفيذ آلية إلغاء الطائفية التي تجسدت بالمادة 95 من الدستور.
ثالثا»، التمسك بإنتماء لبنان إلى العالم العربي.
رابعا»، التمسك بإنتماء لبنان إلى الأسرة الدولية وبتنفيذ القرارات الدولية، ولا سيما القرارين 1595 و1701.
أما اليوم، فأولوية الأولويات هي في الحيلولة دون الإنهيار الشامل للبنان إقتصاديا» وماليا»، وقد وصّفت هذه الحالة في مقال نشرته الإثنين الفائت تحت عنوان «ماذا بعد؟». عمليا»، هذا الإنهيار إن حصل، يقضي على لبنان دولة» وكيانا» ويدخله في الفوضى العارمة وبالتالي، يقضي أيضا» على الإنتفاضة.
الحل يبدأ بالضرورة بتشكيل «حكومة أفضل الممكن» التي تعبر عن حقيقة موازين القوى.
لا يراودني الشك بأن الإنتفاضة باقية وثابتة. إنها، إلى جانب الرقابة الدولية، الضمانة الأولى لتنفيذ الحكومة العتيدة برنامجها الإصلاحي. فهي تراقب وتحاسب. تفصيل ما أتقدم به موجود في مقال «ماذا بعد؟».
يبقى أن تتشكل الحكومة اليوم وليس غدا». ومع تشكيلها أن توضع آلية عملية لقيام الإنتفاضة بدورها الرقابي.