اختزلت مقدمة نشرة أخبار تلفزيون “المستقبل” (http://www.futuretvnetwork.com/node/204960) قرارات مجلس الوزراء، مساء الجمعة الماضي، بالعبارة الآتية: “كما وعد الرئيس سعد الحريري قبل يومين بأن أزمة النفايات ستنتهي خلال أيام، فإن مجلس الوزراء، الذي شهد واحدة من أطول الجلسات في تاريخ لبنان، لأكثر من سبع ساعات، نجح أخيراً بإيجاد حل مرحلي لمشكلة النفايات المتفاقمة، منذ ثمانية أشهر تقريباً”.
ما لم توضحه “المستقبل”، ومعها معظم وسائل الاعلام، أن هذا “الحل المرحلي” هو ليس، في الواقع، سوى الحل نفسه المفروض منذ عام 1996، أو بمعنى أدق، هو ليس سوى الحل “الوحيد”، الذي سبق للرئيس الحريري أن حذّر من اعتماد غيره، عندما نطق جملته الشهيرة، في جلسة مجلس الوزراء في 20 تشرين الاول عام 2010: “إمّا تمديد عقود سوكلين وشقيقاتها، وإمّا خلّ الزبالة تطمركم” (http://www.futuretvnetwork.com/node/204960). يومها رضخ مجلس الوزراء، والمجتمع كلّه، كما يرضخ الآن، وتم تمديد العقود، على الرغم من إقرار الجميع بفسادها وبطلانها وترتيبها أكلافاً باهظة على المال العام.
بالفعل، طُمرت بيروت وجبل لبنان بنحو 700 الف طن من الزبالة، منذ إقفال مطمر الناعمة ــ عين درافيل في 17/7/2015 واتخاذ مجلس الوزراء قراراً تحت الضغط، في 9/9/2015، بعدم تجديد عقدي المعالجة والطمر مع “سوكلين” و”سوكومي”، وكذلك عدم تجديد عقد الاشراف على أعمال المعالجة والطمر… منذ ذاك الحين وُضعت الحلول البيئية المستدامة جانباً، ولم تُناقش في أي مرحلة من مراحل الازمة المستفحلة طيلة الاشهر الثمانية الماضية. وتمت إدارة العملية برمتها لتعود في النهاية الى “الحل الوحيد” نفسه، وهو ما ظهر بوضوح في قرار مجلس الوزراء الاخير، الذي جاء في خلاصته: “تستمر شركتا سوكلين وسوكومي بالأعمال التي كانت تقوم بها، لحين إتمام المناقصة وإعطاء أمر المباشرة بالتنفيذ للشركات”.
بحسب المعلومات الرسمية، التي أذاعها وزير الاعلام رمزي جريج، فالحل الذي أقرّه مجلس الوزراء هو حل مرحلي، لمدة أربع سنوات، يتم خلالها وضع وتطبيق خطة للحل المستدام. وهذا لا يعدّ تراجعاً عمّا قرّره مجلس الوزراء سابقاً لجهة اعتماد مرحلة انتقالية لمدّة 18 شهراً فحسب، بل أيضاً عودة الى النصف الاول من التسعينيات عندما بدأ تطبيق “الحل المرحلي” نفسه، وجرى تمديده كل 4 سنوات حتى اليوم، أي لمدّة 20 عاماً، عداً ونقداً، وهو ما رتّب كلفة باهظة تجاوزت 2.3 مليار دولار، بحسب التقارير التي قدّمها مجلس الانماء والاعمار أخيراً الى لجنة المال والموازنة النيابية، التي كشفت أن نحو 31% من هذا المبلغ صُرف على “معالجة” لم تتم فعلياً، ذلك أن “سوكلين” نفسها أقرّت بأنها كانت تلجأ الى طمر 80% من النفايات وتعالج 20% فقط، وفقاً لعقودها (http://www.sukleen.com/news/Reply%20to%20Sami%20Gemayel%20Ar.pdf)، وهذه النقطة بالذات هي التي دفعت النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم إلى الادّعاء على شركة “سوكلين” وشقيقاتها بتهمة “حصول تلاعب وأخطاء ومماطلة (…) وتقاضي أموال عن أعمال لم تنجز، في ظل غياب الرقابة الفاعلة والتقصير في إتمامها (…) وحصول مخالفات في تنفيذ أعمال المعالجة والطمر التي يُثبت عدم إنجازها وفقاً لشروط العقد مع شركة سوكومي، واستناداً إلى الكميات المتفق عليها، مع المطالبة والإصرار على تقديم فواتير وقبض مبالغ غير مستحقة” (http://www.al-akhbar.com/node/253383). ومن المتوقع أن يباشر قاضي التحقيق الأول في بيروت القاضي غسان عويدات في 11 نيسان المقبل التحقيقات في هذا الملف.
يدرك مجلس الوزراء أن قراره الاخير هو تمديد الفساد في إدارة النفايات، وهذا ما عبّر عنه الرئيس تمام سلام بقوله في جلسة الحكومة، إنه “مهما بذل لحل ملف النفايات من ترتيبات إجرائية ومالية، فإنه يبقى أهون من الأثمان الكبرى لبقاء الوضع على ما هو عليه”. كلام سلام يذكّر بكلام الرئيس الراحل رفيق الحريري في عام 2000 عندما برّر تنامي الدين العام بقوله إنه “اضطررنا الى شراء السلم الاهلي بالمال”، ما يذكّر بالمطالعات الكثيرة عن “الفساد الحميد”. فما قرره مجلس الوزراء يضمن استمرار “سوكلين” و”سوكومي” لمدّة 4 سنوات اضافية، في حال فشلت المناقصات التي كلّف مجلس الانماء والاعمار بإعدادها في غضون شهرين لتلزيم عقود الكنس والمعالجة والطمر في مناطق الخدمات الحالية في بيروت الإدارية وجبل لبنان. في هذا الوقت، تم فرض إعادة فتح مطمر الناعمة لمدة شهرين (بدلاً من أسبوعين في القرار السابق) ريثما يتم تجهيز مطمرين جديدين على الشاطئ في برج حمود وخلدة من أجل ردم البحر واكتساب عقارات جديدة والسطو عليها كما حصل في مكب النورماندي في بيروت، وكما يحصل الآن في مكب صيدا، على أن يحدد مركز المعالجة والمطمر الصحي لقضاءي الشوف وعاليه في مرحلة لاحقة، بالتشاور مع البلديات المعنية (إبقاء السيف مصلتا فوق إقليم الخروب)، في حين ان النفايات الناتجة من منطقة بيروت الإدارية ستوزع على برج حمود وخلدة إضافة الى معمل النفايات في صيدا.
ليس هذا فحسب، بل قرر مجلس الوزراء أن يحافظ على سياسة “الرشوة” لتمرير “الحل الوحيد” الكارثي، بدلاً من أن يستخدم المال العام من أجل إنتاج حلّ بيئي يحفظ مصالح السكان وصحتهم، إذ كلّف وزيري المالية والداخلية والبلديات إعداد مشروع قانون للحوافز، تعطى للبلديات التي تقع في نطاقها معامل الفرز والمعالجة والمطامر الصحية، والموافقة على إقرار دفعة قدرها 8 ملايين دولار لهذه السنة، قابلة للتمديد بقرار من مجلس الوزراء لكل من البلديات التالية، التي تقع في نطاقها المعامل والمطامر، وذلك ريثما يقرّ القانون وهي: برج حمود، الجديدة ــ البوشرية، الشويفات، برج البراجنة والمنطقة الخدماتية الثانية (الشوف وعاليه)، تدفع من حساب البلديات المستفيدة من معالجة وطمر نفاياتها في الصندوق البلدي المستقل. وكذلك دفع مبلغ 6 دولارات عن كل طن من النفايات المتراكمة، التي تصل إلى معمل الناعمة، تحسم من مستحقات البلديات المستفيدة في الصندوق البلدي المستقل. وتخصيص مبلغ 50 مليون دولار لتغطية مشاريع إنمائية في البلدات المحيطة بكل مطمر من المطامر الثلاثة، وموزعة على أربع سنوات، على أن يعدّ مشروع قانون برنامج لتمويل هذه المشاريع يحال إلى المجلس النيابي. والموافقة على طلب بلديات الشويفات وبرج حمود والجديدة ــ البوشرية ــ السد، استثمار الأراضي التي ستنتج من ردم النفايات في البحر، بمعنى تحويل جزء من الملك العام الى ملك عام بلدي يتم استثماره من قبل النافذين في نطاق هاتين البلديتين.
إذاً، قرر مجلس الوزراء أن يعيد الكرّة مجدداً: ان يستمر بعملية شفط أموال البلديات غصباً عنها، ومن دون أي “تنسيب قانوني”، وفق ما يقول الوزير السابق شربل نحّاس، ووفق عقود غير قانونية أتاحت زيادة الكلفة بنسبة 781.7%، من 23.5 مليون دولار في عام 1996 الى 183.7 مليون دولار في عام 2014، بحسب ما كشفت عنه تقارير مجلس الانماء والاعمار الى لجنة المال والموازنة النيابية. وبلغ مجموع ما سُدّد نيابة عن البلديات نحو مليارين و257 مليون دولار في 18 عاماً، أي بمعدل وسطي قدره 125.4 مليون دولار سنوياً. وبحسب هذه التقارير، كلّف عقد المعالجة في هذه الفترة نحو 701.6 مليون دولار، على الرغم من أن 80% من النفايات يجري طمرها، وقد كلّف عقد الطمر نحو 646.7 مليون دولار، يضاف اليها نحو 30.3 مليون دولار لعقد الإشراف على الطمر، ونحو 31.7 مليون دولار لعقد الإشراف على المعالجة.