IMLebanon

بالعودة إلى الينابيع نهزم الإرهاب

لأننا نحن أنفسنا الذين زعمنا طويلاً أننا نحتل موقع الطليعة في قيادة الجماهير، والأخذ بيدها لتحقيق الأهداف الكبرى التي تحمل السعادة والرفاهية والحرية للشعب. قد غادرنا مواقعنا الطليعية ودورنا القيادي ورحنا نقتات من فتات موائد الأنظمة الغاشمة، تلك التي باسم تحرير الأرض والإنسان تخلت عن الأرض وأجهزت على الإنسان، والتحقنا، كل منا، بطائفة أو مذهب أو حزب يتمترس وراء طائفة أو مذهب ها نحن بحق شركاء في الإرهاب.

فالقيم المثلى التي طالما كانت تستحق أن يستبسل من أجلها الناس بحسهم العفوي وبحثهم عن العدالة والحرية بلا هوادة، راحت تتلاشى وتذوي تحت وطأة غرائز التعصّب والكراهية الفئوية المنفلتة من عقالها، فحفرنا الخنادق ونصبنا المتاريس ونصبنا الكمائن بيننا وفي صفوفنا وغرقنا صرعى في احترابنا الداخلي. فلم يعد للحوار ولا للنقاش الهادئ مكان في تاريخنا الراهن فأصبحنا نصب الماء في طواحين الإرهابيين. تلك هي الحقيقة القاطعة.

فالمشروع القومي الذي كان يثير جدالاً غنياً في كل دار وتتحلق حوله السهرات في ساحات القرى والبلدات، ويلهب الملايين في عواصم الأمة، أصبح شلواً ممزقاً مهملاً تحت الجزم العسكرية ودليل اتهام في أقبية السجون وغياهب الزنازين ومراكز الاستجواب والتحقيق. وعندما تخلينا عن عروبتنا وتلك الوشائج التي تشدنا وتجمعنا، بدأت الطفيليات والأوبئة بالظهور. فالعنف المجاني وعبودية سلع الاستهلاك والجنس الرخيص وتجارة المخدرات وانتشار البغاء وتسطيح المعرفة والازدراء بالعلوم والتنكر للتراث الأصيل كان هو المقدمة لذبول المشروع القومي عشية ازدهار ونضوج الطروحات المذهبية المدمرة التي نهشت كل ما هو واعد ومشرق ومضيء في روح الأمة التي بناصيتها تأخذ مكانها الذي تستحق بين شعوب الأرض وترتقي سلّم التطور والتقدم وحقوق الإنسان.

فمن دون حس قومي ووعي قومي وإدراك فعلي لمصالحنا القومية ولذاتنا وهويتنا وتراثنا وما هو إيجابي وتقدمي في تاريخنا، لن نتمكن قط من دحر الإرهاب على ترابنا الوطني والقومي كشرط أولي في مساهمتنا لسحقه على الحلبة الدولية. إن ذلك هو السلاح الوحيد المتبقي في حوزتنا، وهو وحده القادر على مواجهة هذا المد التدميري الجنوني المتربص بنا والذي يتهدد العالم من أقصاه إلى أقصاه.

اننا عوض أن نلعب دوراً طليعياً رائداً في الثورة المعلوماتية والعلمية وعالم الاتصالات المتسارعة خطاه بصورة مذهلة وقد أصبح العالم بأسره قرية إعلامية، غرقنا في متاهات الطروحات الغيبية الماورائية مدعين تكليف الهي سماوي مزعوم بنفس ونهج استئثاري قسري الزامي، ليس هو في حقيقته سوى التعبير الناضح عن عجزنا من مواكبة مهمات المرحلة الجديدة وما تتطلبه من عقول نيرة منفتحة على هذا العالم الفسيح الزاخر بالتطور والانجازات العلمية المذهلة، لا بل نسينا غافلين كل المآثر الفكرية والعلمية والأدبية التي خلفها الأوائل المستنيرون والتنويريون اولئك الذين شقوا لنا الطريق الصواب لننهض بدورنا من عصر الظلمات والأوهام والتقاليد الموروثة المتعفنة قدماً الى عصر النهضة.

فقد ضاعت جهود شبلي الشميل وفرح انطون وجرجي زيدان واليازجيين وتطلعات محمد عبده وقاسم امين والافغاني والكواكبي تحت سنابك دبابات العسكر الظامئين للتربع فوق رقاب شعوبهم. فعوضا عن استلهام العلمنة الانسانية وفصل الدين عن الدولة كطريق وحيد لارساء السلم الداخلي الموحد الراسخ لبلورة طموحات الشباب وخاماتهم العقلية الواعدة المبدعة وكناظم للعلاقات في مجتمعاتنا المتعددة الطوائف والمذاهب والأطياف، رحنا نشهر اسلحة الحروب الدينية والاقتتال المذهبي وننتحل زوراً النصوص المقدسة نمعن فيها تحريفا وتزويراً وتفسيراً خاطئاً حتى اصبحنا بجدارة مخزية ومعيبة مصدراً ومصدّراً لفصائل القتل والذبح والعبوات الناسفة نردي بها الابرياء اولئك الذين فتحوا لنا معاهدهم وجامعاتهم العلمية ومراكز ابحاثهم في طول اوروبا وعرضها بل وفروا لنا الملجأ والملاذ ننعم فيها بالحرية وبحقوق الانسان والمواطن في زمن الاغتيالات المرعبة والمذابح الجماعية وسحق المدن والاحياء والقرى.

لم تكن العروبة التي افنى رموزها من أجلها اعمارهم وبنات افكارهم بدعة أو اختلاقاً بل قيم قابلة ومؤهلة لدفعنا نحو رحاب الحضارة والتقدم، بل ذات وهوية وتراث بالامكان تفعيله وتطويره وتحويله الى اسس عظيمة قابلة للتطور والتكامل وصولاً الى اعلى درجات التطور العلمي وللمجتمعات الراقية. فإذا بنا نتخلى عنها ونتنكر لها جاهدين شاكي السلاح امام القوى الظلامية والارهاب الدموي.

ولم يسلم الاسلام نفسه كقيمة فكرية وحضارية كبرى من براثن القتلة دعاة الابادة الجماعية وسحق الابرياء بالجملة، على خلفية الكراهية والحقد الجنوني والتعصب المعتوه، فجعلوا منه زوراً وتحريفاً فزاعة واداة قتل يروعون بها البشرية الآن.

وتزداد بما لا يقاس المخاطر الهائلة المحيقة بنا من كل جانب وكأن ثمة اتساقاً ومواكبة وتعاوناً منظماً متابعاً بينها وبين الهجمة الإرهابية التي تستهدفنا كما تضرب في العالم. وتجدنا نقاتل على جبهات متعددة. وها قد أصبحنا تحت المجهر الدولي. فمنطقتنا كلها في خطر بل أمتنا كلها مستهدفة بثرواتها وإمكاناتها وطاقاتها وخيراتها، بل مصيرنا بأسره أصبح على المحك. فلم يبق في أيدينا سوى سلاح واحد ألا وهو سلاح الهوية والشخصية والانتماء، فإن العودة إليه هو وحده الضمانة الوحيدة المتبقية لنا لدرء الأخطار ورد الغزاة. والعودة إلى هذا السلاح هو خير من التمادي في باطل المراوحة. فمن دون عروبة سليمة نقية قوية ومعافاة، ومن دون العودة إلى وحدة صفوفنا، ونبذ أخطائنا والاستفادة المعمقة من دروس الماضي، فسوف يظل الإرهاب بكل تلاوينه يمعن في زعزعة كينونتنا وينهش في لحومنا. ولن تنعم لا أوروبا ولا العالم بأسره بالسكينة والهدوء والاستقرار طالما الوطن العربي مهدد بالدرجة الأولى بأفدح الأخطار.

فليعلم القاصي والداني أنه لم يعد فصاعداً من مكان بيننا للحزب الواحد ولا للزعيم الملهم، ولا للأجهزة القمعية الدموية، ولا لعبادة الفرد عبقري الدهور وفتنة العصور، ولا لمن بيده تعويذة التحرير ولا من يتلطى ببدعة الممانعة وبعلمنة السجون وأقبية التعذيب، فلن يكون بيننا مكان بعد اليوم لمن أطلق الإرهاب ليرهبنا به ويبتز به العالم. فقد أعد له مكانه الذي يستحق: إما قفص الاتهام والإدانة أو متحف العاديات.

فلنطلق للديموقراطية والحرية والعدالة العنان. عندئذ يسقط الإرهاب.