مع الدقائق الأولى لوقف إطلاق النار، شرّعت الضاحية الجنوبية مداخلها كافة لبدء استقبال أهلها. وانتظرت عودة بث الحياة في مبانيها وأحيائها، ومن فوق ركام مخلّفات الحرب وغاراتها الحقودة. وهكذا كان، وكأنّ أبواب السماء قد فُتحت لهم. التزم أهل الضاحية حفظ أمانة سيّدهم… وسيّدها. أمس، أمضت مئات العائلات ليلتها الأولى في أحضان «الأرض المقدسة» التي استشهد فيها السيد حسن نصرالله.
ليست وحدها المباني المهدّمة والمتضررة، ترسم لك صورةً عن همجية العدوان الإسرائيلي، إنما رائحة النار والبارود، وأنواع المواد السامة التي استخدمها العدو في القصف. مع بزوغ الضوء بدأوا بالوصول إلى منازلهم ومحالهم التجارية. بعضهم استأنف العمل كمتاجر المواد الغذائية، والمقاهي المنتشرة على جوانب الطرقات. من جسر المشرفية إلى شارع السندريلا في بئر العبد، وصولاً إلى مدخل ما يُعرف بمنطقة «الشورى»، خط تجاري مليء بالمحال على ضفتي الطريق، يشهد على عودة بعض الباعة الذين يتفقدون أرزاقهم، ويلملمون الزجاج المتناثر على أبواب المتاجر، تحضيراً لاستئناف أعمالهم في الأيام المقبلة. في ساحة «الشورى» يجلس شبان داخل مقهى اعتادوا التجمّع فيه. يقول أحدهم، إن «النصر إن كان منقوصاً، فهو لأن السيّد، لا يشاركنا اللحظة، بكل ما يعنيه غيابه من غياب لمصدر الأمان»، و«لأن السيد أحبّ الضاحية نحن لن نتركها وسنعيدها أجمل مما كانت»، يردّ صديقه.
منذ الفجر تدافع العائدون إلى موقع اغتيال الشهيد السيد نصرالله
على الرصيف المقابل، وقف رجل في عقده السادس، ينتظر أن يعيد صاحب مولد الكهرباء في الحي إصلاح التوصيلات وأسلاك الكهرباء المقطعة، بعدما قرر المبيت في منزله، غير آبهٍ برائحة القذائف، ولا بانقطاع المياه عن المبنى، لأن «الروح عادت إليّ مع عودتي إلى منزلي».
صعوداً باتجاه حارة حريك، يمكن اختصار الطريق بزاروبٍ ضيّق ينتهي بدرجٍ ينقلك إلى خط الحارة الرئيسي، على زاويته شاب يزيل بيديه مخلّفات العدوان من أمام محلّه لتصليح الهواتف الخلوية. الشاب العشريني لم ينتظر أن تشرع البلدية بالتنظيف، أو لجان الكشف على الأضرار، تسابق مع الوقت، استعداداً لاستقبال الزبائن في غضون أيام.
خليط من المشاعر، على المتجول التعامل معه، كلما اقتربت المسافة من مكان استهداف الأمين العام. فعلى طول الشارع المؤدي من جامع الحسنين مروراً بمستشفى بهمن ومن ثم إلى نقطة الاستشهاد، (بضعة أمتار) ستصادف وجوهاً باكية، كان أصحابها يزورون سيّدهم، وحارس أحلامهم وأمانهم. مع التقدم نحو موقع استشهاد السيد، تتغير معالم الطريق، وفي بعض الأماكن لا طرقات أصلاً، صالحة لا للسير على الأقدام ولا لعبور السيارات. حفر ضخمة منتشرة في أربعة شوارع متوازية، قطعت أوصال الأحياء. لكنّ تجمّع الناس في نقطة محددة، سيرشدك إلى مكان انتشال جثمان السيّد. تحوّل المكان إلى مزارٍ، منذ الخامسة فجراً. ورغم كل الإجراءات التي قرر حزب الله اتخاذها، حفاظاً على سلامة الناس بالدرجة الأولى، لم يستطع منع الزائرين من الوصول. على التلال المحيطة بالحفرة الناجمة عن الاستهداف، تجمّعت نسوة وأطفال وشيوخ يبكون، وقلة أسعفتهم العبارات لوصف تلك الأرض بـ«المقدسة».
صور الأمين، وأعلام حزب الله، رُفعت وسيّجت المكان. كانت الساعة تقترب من الخامسة مساءً، والعتمة تحلّ، عندما ناشد أحد الشبان الجميع المغادرة، فيما كان آخرون يصلون طالبين عبور العارضة الحديدية للدخول، قبل أن يضربوا موعداً اليوم لإلقاء التحية على السيّد.