بحسب المقولة اللبنانية الشهيرة المنسوبة للرئيس الراحل كميل شمعون، «اذا اردت ان تعرف ماذا في بيروت عليك أن تعرف ماذا في بغداد»، للدلالة على واقع العلاقة والرابط بين البلدين، الى حد ان بداية نهاية نظام الرئيس صدام حسين تزامنت مع نهاية حليفه رئيس الحكومة الانتقالي في لبنان ميشال عون، وسقوط المناطق الحرة، لتليها دخول الحليف الثاني الدكتور سمير جعجع السجن، ليدخل بذلك لبنان كله في دائرة سيطرة حزب البعث بجناحه السوري.
فلطالما ارتبط مسار ومصير البلدين إلى حد تزامن ثورتي الـ 2019 وتماهي خطابيهما في أكثر من محطة، حتى أن المخارج الدستورية التزمت الاجندة نفسها، فكان اختيار حسان دياب لرئاسة الحكومة، على أن يكون «مالكي رقم٢»، إلا أن الرياح سرت بغير ما تشتهي سفن أصحاب القرار يومها، ففشل سيد السراي بتكنوقراط الصف الواحد واستطاع الكاظمي تخطي القطوع والصمود، واضعا المدماك الأول في طريق تغيير اتجاه العراق وسحبه من الحضن الإيراني، وصولا إلى الانتخابات البرلمانية التي انتجت تغييرها جذريا في المشهد حتى الساعة.
فالاستحقاق «المبكر» الذي شهدته بلاد ما بين النهرين، منذ ما يقارب الشهرين، والتي سبقها ورافقها وتبعها الكثير من الجدل، مع موجة الاعتراضات والاحتجاجات من الخاسرين، الموالين لإيران، الذين لم يهضموا او حتى يبلعوا النتيجة التي خيّبت آمالهم، خلافا لكل التوقعات، التي شارك في وضعها وعمل عليها فريق لبناني، رسم استراتيجية إدارة المعركة الانتخابية للمحور، ولما بعدها، على مراحل، بلغت حاليا مرحلتها الثانية وهي تشكيل الحكومة، حيث يصر انصار «الممانعة والمقاومة» على تشكيل حكومة وحدة وطنية تربك المشروع الاميركي اقله ان لم تسقطه، وتعوّض الخسارة، ما يرفضه التحالف النيابي الأكبر المؤلف من ائتلاف التيار الصدري، الكتلة السنية، وكتلة كردية، مصرا على حكومة اكثرية تعارضها الأقلية، وفقا لما افرزته الانتخابات.
مصادر متابعة للوضع العراقي، رأت ان الرؤية الصدرية تتقاطع مع ما يرسمه الخارج لبغداد من دور مستقبلي، بعدما نجح الكاظمي في احداث خرق على الجبهة السعودية – الإيرانية، نتيجة تمايزه عن طهران ما أراح الرياض، على أمل أن تتواصل الوساطة العراقية على هذا الخط، مع الإشارات الإيرانية عن استعداد الرئيس ابراهيم رئيسي لقاء الملك سلمان بن عبد العزيز أو ولي عهده الأمير محمد، من أجل نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، مقترحا عقد قمة إسلامية للمصالحة في بغداد.
وتتابع المصادر، ان الدور الأهم الذي تسعى وراءه بغداد، هو لعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن، لعقد اجتماعات سرية في بغداد، على غرار اجتماعات الشارقة وعمان، تمكن البلدين من بحث خلافاتهما وجهاً لوجه، بهدف دفع مفاوضات فيينا، وحلها، لأن عدم إجراء نقاش مباشر سيؤدي برأيهم إلى فشل المفاوضات النووية التي تشارك فيها واشنطن بشكل غير مباشر، وهو ما يلاقي بدوره ترحيباً ايرانياً وتأكيداً على ضرورة اللقاءات المباشرة لتجاوز النقاط الخلفية.
مسعيان سيساهم نجاح بغداد في لعب دورها على أكمل وجه فيهما، في احتلالها مكانة خاصة في المنطقة، قد تكون الشراكة الاقتصادية السورية – العراقية – الاردنية – اللبنانية، أولى ثمارها، فضلا عن الأدوار الاستراتيجية والسياسية التي يمكن أن توكل لهذا البلد الذي رسم جغرافيتها السياسية الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن قبل سنوات. طموح يفتح الباب على مصراعيه حول مسالتي من المؤهل للعب دور رئيس حكومة هذه المرحلة، وهل يسلم الممانعون بخيار الصدر؟
عند البحث في الأسماء يتقدم المشهد مصطفى الكاظمي، نظرا لوجود توافق أميركي وقبول عربي على شخصه، بالإضافة إلى اتفاق بين الصدر والحزب الديموقراطي الكردستاني لمنحه الثقة لولاية ثانية، يليه، بحسب المراقبين، رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، الذي نجح في إدارة البلد بأحلك الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية خلال الفترة 2014-2018، ويمتاز بحياديته ووسطيته ولا يميل إلى محور معيّن ويتجه دائما إلى عناصر التهدئة، وليست لديه سياسة طائفية، ويحاول دائما أن يكون عنصر وسط لتقريب وجهات النظر المختلفة والمتقاطعة، وهذا ما يجعل كل الفرقاء السياسيين ومن مختلف التوجهات تتجه إليه عند تأزم الأوضاع. اما اخيرا، فمرشح الممانعة، رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الموالي لايران، والذي يسعى لرئاسة الحكومة ويحظى بأكبر عدد من الأصوات الموالية لطهران لكن تحالف الصدر الذي يملك الأكثرية، يرفض رفضاً مطلقاً أن يعود المالكي لأنه متهم بالفساد، لذلك فإن حظوظه شبه معدومة.
اما في النقطة الثانية، من الواضح أن تشكيل حكومة اكثرية وان تم فهو سيكون المدخل لانفجار الوضع في مناطق وسط العراق مع بوادر إعادة تموضع لتنظيم الدولة الإسلامية، لتنتهي تلك المرحلة التي تشهد تضارب في مصالح وتكتيكات الجهات الأمنية والثورية العراقية، إلى تطبيق عملي وكامل للنظام الفدرالي، بعدما أسقطت داعش عام 2014 حدوده.
عمليا، وفي حال أردنا إسقاط هذا الواقع العراقي، على الساحة اللبنانية، من منطق ارتباط الساحات، يمكن القول ان بغداد اتجهت نحو انتخابات برلمانية ستنتج انفجارا يؤدي إلى تطبيق نظامها الفدرالي، فيما بيروت تسير بعكسها، إذ يفترض سقوط إجراء الانتخابات النيابية في موعدها تحت ضغط الانفجار الكبير المتوقع، ليكون بعدها الاتفاق على صيغة النظام الجديد الذي تبين المعطيات انه سيكون «الطائف +»، وهو ما يمكن قراءته بين أسطر الاطلالة الأخيرة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون.