تستدعي واقعة الاستفتاء الكردي وانعكاساتها تساؤلات عديدة: هل كان الاستقلال كحلم تاريخي طموحاً واقعياً منذ إقرار دستور 2005 الذي شارك الأكراد في صوغه؟ وهل أن ظروف الدعوة إلى الاستفتاء كانت مواتية إقليمياً ودولياً؟ وهل أقنعت التداعيات، بعد إجرائه، القيادة الكردية بأنها ارتكبت أخطاء ليست في مصلحة الإقليم وشعبه؟ وهل يمكن أي مفاوضات مع الحكومة المركزية أن تمكّن القيادة الكردية من معالجة تلك الأخطاء، أو تعيد الإقليم الى ما كان عليه قبل خسارة سيطرته على «المناطق المتنازع عليها؟».
لم يمت حلم استقلال كردستان بتنحّي مسعود بارزاني، ولا حتى بـ «الخيانة العظمى» كما سمّاها بالإشارة الى إقدام بيشمركة حزب الاتحاد الوطني الديموقراطي على تسليم كركوك الى ميليشيا «الحشد الشعبي» التابعة لإيران، ولا بتقاطع مصالح الآخرين من أصدقاء وخصوم. لكن الحلم الذي بلغ مئة عام وأكثر تأجّل مجدّداً وقد يواصل الابتعاد الى أجل غير معروف. فالدول الأربع المتضرّرة، تركيا وإيران والعراق وسوريا، ظنّت أن الترتيبات الدستورية العراقية وجدت حلّاً للمسألة الكردية، عبر فدرلة الإقليم بما تتضمّنه من حقوق واستقلالية، لكن الاستفتاء والاستعداد للانفصال أعادا المسألة الى المربع الأول ودقّا ناقوس الخطر: فمنذ الآن يعود الأكراد خطراً على الأمن القومي في تلك الدول التي ستُسخّر في مواجهته كل مصالحها وعلاقاتها الخارجية وسياساتها الدفاعية.
كان بارزاني دائم الإيحاء بأن ما يحدث في كردستان العراق غير معنيّ بطموحات أكراد دول الجوار وأوضاعهم، وحرص على علاقات جيّدة بين أربيل وطهران وأنقرة ودمشق (قبل أن تغرق في دوّامتها)، وبالنسبة الى سورية كان أقرب الى الأكراد المعارضين لنظام بشار الأسد منه الى أكراد «الاتحاد الوطني» المتفرّع عن «حزب العمال الكردستاني» (المناوئ للحكم في تركيا). وكما قاتلت بيشمركة كردستان العراق تنظيم «داعش» تماهى الحزبان الأصل والفرع لمحاربته في سورية حيث ظهرت صور عبدالله أوجلان في الرقّة وصور لمقاتلين وشعارات الـ «بي كي كي» في دير الزور. وتفيد مصادر عدّة بأن أكراد الجوار، بمن فيهم أكراد ايران، أوصلوا رسائل الى بارزاني تبلغه فيها أن «توقيت الاستفتاء» غير مناسب لها، بل إنه قد يعرّضها لأخطار. فمقاتلو «بي كي كي» في سورية ملتزمون مع «ب ي ج» (وحدات حماية الشعب)، في اطار «قوات سورية الديموقراطية»، المساهمة في الحرب الأميركية على «داعش»، قبل أن يعودوا الى تركيا وقد اكتسبوا خبرة قتالية. ومقاتلو «ب ي ج» في «قسد» انجزوا جانباً كبيراً من مشروع «الإقليم الكردي» في سورية ويوشكون أن يحصلوا على ضمان روسي له، إضافة الى الضمان الأميركي، وشعروا بأن استفتاء أربيل قد يخلق عراقيل غير متوقّعة. أما أكراد ايران الذين يواصلون تنظيم أنفسهم فيخشون ارتدادات انفصال كردستان العراق عليهم.
المؤكّد أن تركيا وإيران ما بعد الاستفتاء لم تعودا كما قبله، والواقع أن اجراءات القطيعة وإغلاق الحدود لم تكن مفاجئة. فهي كانت جزءاً ثابتاً في حسابات أي خطوة استقلالية من جانب كردستان العراق، وفي السابق كان تُضاف اليها تلقائياً اجراءات مماثلة من دول عربية مجاورة، إلا أن ظروف الحرب السورية والصراع مع ايران بدّلت مزاج المنطقة العربية وفتحته على إمكان قبول المتغيّرات ولو على مضض. وإذ تؤكّد الدول كافةً اليوم تأييدها بقاء العراق موحّداً، على أمل أن تبقى سورية موحّدة (فضلاً عن اليمن موحّداً وليبيا موحّدة)، فإن عودة المسألة الكردية الى الواجهة، بإصرار اميركي وعدم ممانعة روسية، أدخلت المنطقة كلّها في سياق اعادة النظر في الخرائط، ورسمت علامات استفهام فوق وحدة أراضي تركيا وإيران وغيرهما. لكن الأهم أن الإبراز الدولي (الأميركي) لـ «إنصاف الأكراد»، كنتيجة لفوضى الحروب الأهلية والإرهابية في المنطقة العربية وتصحيح للظلم التاريخي المتعمّد في اتفاق سايكس – بيكو، يطرح في حدود المعطيات الحالية إجازة أربعة أقاليم/ دويلات كردية تُقتطع من أربع دول، بما يعنيه ذلك من اضطرابات واسعة، وسيكون صعباً وصل هذه الإقاليم/ الدويلات في دولة واحدة بسبب التناقضات بين الأكراد أنفسهم.
يعرف بارزاني كلّ هذه التعقيدات لكنه اعتقد أنه الزعيم الكردي الأول الذي تجمّعت لديه ظروف ملائمة لإعلان كردستان دولة مستقلّة، ومن الخطأ ألّا يستغلّها، بمعزل عمّا اذا كانت نواةً لـ «الدولة الكردية» المتوخّاة أم لا. واقعياً، لم تكن الظروف ملائمة، لا كردياً ولا عراقياً ولا اقليمياً ولا دولياً، بدليل الضغوط التي مورست عليه لتأجيل الاستفتاء ولم يُرِد أن يأخذ مغزاها في الاعتبار، حتى أن العديد من الأصوات داخل الإقليم اعتبرت أن عناده «الشخصي» تغلّب على دوافع «المصلحة القومية».
أما لماذا لم تكن الظروف ملائمة كردياً فلأن الأحزاب الأخرى تشير منذ زمن الى أن «دولة» الإقليم تعاني من أمراض دولة العراق نفسها (فساد ومحسوبية وهيمنة حزب واحد)، وتدعو الى اصلاح اوضاعه وقوننتها إعداداً لاستقلاله، ثم أن الاستفتاء شكّل اختباراً محرجاً لـ «الاتحاد الوطني» في علاقته الوثيقة بإيران… ولم تكن ملائمة عراقياً لأن حكومة بغداد وجيشها يخوضان حرباً على «داعش» فيما يواجهان منافسة شديدة من أتباع ايران وميليشيات «الحشد»، وبالتالي فإن أي تعامل غير صارم مع استقلال كردستان كان سيفجّر الصراع الداخلي، وإذا كان الاستقلال يتطلّب تفاوضاً مع بغداد فإن الدستور والانقسامات السياسية لا يتيحان لها الاستجابة… ولم تكن ملائمة اقليمياً بسبب هواجس تركيا وإيران وقلقهما من الاستخدام الأميركي للمسألة الكردية للمسّ بوحدة أراضيهما، لذلك اندفعت أنقرة الى القطيعة والتصعيد السياسي، أمّا طهران فأمرت قاسم سليماني بدفع الفرقة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين الى حدّ تسليم كركوك… وأخيراً لم تكن الظروف ملائمة دولياً لأن الاستفتاء وضع الدول كافةً أمام خيار «إمّا مع الأكراد أو ضدّهم» من دون التشاور المسبق معها، بل الأهم أنه دفع بـ «الحليف الأميركي» الى اختبار لا يريده وهو في ذروة حاجته الى حكومة بغداد، وفي بداية تصعيد مواجهته للنفوذ الإيراني.
مع استعادة المناطق التنازع عليها، وتضاؤل أوراق المساومة في أيدي القيادة الكرديّة، جاء تنحّي بارزاني واتهامه «الجميع» بخذلان الأكراد ليضعف أيضاً موقف التفاوض للإقليم. فلا «تجميد» نتائج الاستفتاء مقبول لدى بغداد حتى لو اضطرّها الضغط الأميركي إلى تجاوزه، ولا التفاوض سيكون على أساس ما كان بارزاني يطرحه للتخلّي عن الاستفتاء أو تأجيله. والأكيد أن صعوبات كثيرة استجدّت أمام المفاوض الكردي، وأبرزها أن بغداد تشترط سيطرة الدولة الاتحادية على أراضي العراق قبل الشروع في التفاوض، الذي يُتوقّع أن يبدأ من نقطة الصفر. وطالما أنه سيُجرى على أساس الدستور فإنه قد يفتح نقاشاً جديداً على المصطلحات والمفاهيم: الدولة الاتحادية، الإقاليم الفيديرالية، تقرير المصير، الحدود، الحقوق، النفط، الدفاع، الأمن، السياسة الخارجية… وبناء على موازين القوى الحالية فإن الأكراد سيحاولون الحدّ من الخسائر في المكتسبات التي حقّقوها، ولا يمكن التوصّل الى اتفاق إلا اذا وافقوا على أن يبقى الإقليم جزءاً في كنف الدولة الاتحادية. هذا منطقيٌّ دستورياً لكنه أقلّ من «حلمهم»، وإذا لم تتغيّر الظروف داخلياً وإقليمياً سيصعب عليهم تفعيل سعيهم الى الاستقلال.
كل ذلك لا ينفي أن «الدولة الاتحادية» نفسها ليست مؤهّلة عملياً للتفاوض، صحيح أن الدستور يمنحها الحجة والصلاحيات لتصويب العلاقة بينها وبين الإقليم، لكنه لا ينفع حَكَماً بينها وبين الأكراد من دون سواهم. فـ «الدولة» تكون فوق الجميع، بمن فيهم أتباع ايران، أو لا تكون. ولا يبدو دفاع حيدر العبادي عن «الحشد» مقنعاً، لسبب بسيط هو أنه يتجاهل انتهاكاته التي بلغت في كركوك وغيرها حدّ تكرار «حملة الأنفال»، ومارست وتمارس في كل المحافظات السنّية اضطهاداً منهجياً للمواطنين. وإذا لم تحتكر الدولة الجيش والأمن والمعاملة القانونية المتساوية للجميع فستكون كمَن يدعو الأقاليم والمناطق الى المطالبة بالاستقلال والانفصال.