في عام 1916، وفي منتصف الحرب العالمية الأولى، اتفق رجلان سرًا على تقسيم الشرق الأوسط بينهما. السير مارك سايكس سياسيٌ صاحب رؤية، وفرنسوا- جورج بيكو ديبلوماسيّ يحمل ضغينة، كما كان يصفهما معاصريهما. الصفقة التي توصّلا إليها، والتي كانت تهدف إلى تخفيف التوترات بين فرنسا وبريطانيا العظمى وكادت أن تؤدّي الى تطيير الوفاق الودي (Entente Cordiale) نجحت في رسم خط في الرمال من البحر الأبيض المتوسط إلى الحدود الفارسية، فأصبحت الأراضي الواقعة شمال هذا الخط تابعة للنفوذ الفرنسي؛ والأراضي جنوبه للنفوذ البريطاني. وعلى رغم من الصعاب فقد نجا الإتفاق، وشكّل الأساس لتقسيم المنطقة بعد الحرب إلى خمس دول جديدة ستحكمها بريطانيا وفرنسا. فتمّ إنشاء «الانتدابات» البريطانية على فلسطين وشرق الأردن والعراق، فيما انتدبت فرنسا كلّاً من لبنان وسوريا.
لقد جعل اتفاق سايكس- بيكو هاتين القوتين جارتين غير مستقرتين على مدى الثلاثين عامًا التالية، تتناحران تارة من خلال السياسيين والديبلوماسيين والجواسيس وطوراً من خلال دعم الثورات…
لقد ساهم «الخط في الرمال» هذا بوضوح في رواية قصة الحقبة القصيرة ولكن الحاسمة عندما حكمت بريطانيا وفرنسا الشرق الأوسط. وقد أدى العداء القديم بين هاتين القوتين إلى الحرب بينهما في عام 1941، وفي عام 1946، وبعد سنوات عدة من المؤامرات والتجسس، نجحت بريطانيا أخيرًا في طرد فرنسا من لبنان وسوريا، وحققت «وعد بلفور»، وتم إنشاء كيان يهودي، وبدأ منذ ذلك الحين تأجيج التنافس الحديث المألوف بين العرب واليهود، فتتالت الحروب بين الفلسطينيين واليهود منذ العام 1948 وكان آخرها الحرب التي انطلقت في 7 تشرين الأول 2023، والمفارقة أن من أطلق الحرب هذه المرّة كان حركة «حماس».
والمعروف أنّ إيران هي أكبر راع لـ»حماس». ولكن لم يتمّ بعد الكشف رسميًّا عن مدى تورط طهران في التخطيط والتحضير للهجوم، لكن لدى إيران الكثير من الأسباب التي تجعلها ترغب في هز المشهد السياسي في المنطقة برمّتها. فأكثر ما يخشاه الإيرانيون أصبح قاب قوسين من التحقيق، الأ وهو السلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
ففي الأشهر الأخيرة طَفت الى الواجهة مبادرة أميركية للتوسط في اتفاق تطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ومن شأن صفقة كهذه أن تعيد تشكيل البنية الأمنية في الشرق الأوسط، صفقة وصفها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأنها الأكبر منذ الحرب الباردة.
إلا أنّ إيران كانت تبحث عن طرق لإفساد هذا السلام. فحتى الآن قامت إسرائيل والمملكة العربية السعودية بتوسيع علاقاتهما بهدوء، لكن الاتفاق الرسمي من شأنه أن يعزّز هدف إسرائيل الاستراتيجي المتمثّل في ضمان القبول والاعتراف الكاملين بها في العالم العربي.
إن اتفاق سلام بهذا الحجم من شأنه أن يفتح آفاقًا اقتصادية جديدة في المنطقة مما يجعل الأطراف أكثر تكاملاً وازدهارًا واستقرارًا، والأميركيون يبذلون جهودًا إضافية لإنجاز ذلك.
لكنّ غصن الزيتون سيأتي بشروط وأحكام ، فقد تم طرح حزمتين دفاعيتين منفصلتين مع الولايات المتحدة كاعتبارات للتطبيع السعودي ـ الإسرائيلي. ستشبه هذه المعاهدات الاتفاقيات العسكرية مع اليابان وكوريا الجنوبية والتي تعتبر أقوى المعاهدات التي أبرمتها الولايات المتحدة خارج حلف شمال الأطلسي. وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل حلف «شمال أطلسي» في الشرق الأوسط مهمّته احتواء إيران والمدّ الشيعي، يدعم أميركا في مراقبة المنطقة، ويسمح لها بتقليص تواجدها العسكري فيها.
ومع ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها واشنطن إنشاء نظام جيوسياسي ما في الشرق الأوسط. ففي عام 1955، ساهم الأميركيون والبريطانيون في إنشاء حلف المعاهدة المركزية CENTO أو ما بات يُعرف بـ»حلف بغداد». وكان من المفترض أن يكون ما كان عليه «الناتو» بالنسبة الى أوروبا، وهو تحالف دفاعي جماعي يعمل ضد النفوذ السوفياتي.
من الواضح أن الأمر لم ينجح، فالانقلابات والثورات والانقسامات الداخلية أعاقت مسؤوليات CENTO وقدراته. وفي النهاية تم حل المنظمة في عام 1979. وتوالت المحاولات لإعادة إنشاء شيء مماثل، لكن كلها باءت بالفشل، وكانت المحاولة الأخيرة من جهة إدارة ترامب، حيث دفعت الولايات المتحدة في اتجاه إنشاء تحالف إقليمي شامل، عُرف بالتحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط (MESA). في اختصار، كان هدفه كبح جماح إيران واحتوائها، لكن الديناميكيات الإقليمية قوّضت الوحدة مرة أخرى، ولم يُكتب لـ ميسا الحياة.
إن التوصل إلى اتفاق سلام اذاً لن يكون سهلاً في ظل هذه الظروف وانصاف الحلول. إن الاحتياجات السياسية تتغير بالسرعة نفسها التي تغيّر بها الرياح اتجاهها، وأعداء اليوم يمكن أن يصبحوا أصدقاء الغد. وحتى مع ذلك، من أجل التوصل إلى اتفاق، كان على واشنطن أن تقوم بإيجاد أرضية للمصالح الاستراتيجية المتداخلة التي يمكن أن تجمع المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
إن عملية التطبيع إذا حدثت، والتي تطمح الولايات المتحدة من خلالها للخروج من الشرق الأوسط، يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى إعادتها إليه إمّا مباشرة أو بواسطة حليفتها الإستراتيجية بريطانيا، ويرتّب عليها تقديم التزامات إضافية للمكان الذي تريد مغادرته والفائدة الوحيدة لأميركا هي أنّ الحزم الدفاعية تسهّل عجلات المفاوضات لمصلحة إسرائيل.
وبالعودة الى الحديث عن بريطانيا العُظمى، ففي تاريخها البعيد أدّت المملكة المتحدة دورًا تكوينيًا في الشرق الأوسط، من الليدي هستر ستانهوب «مستكشفة» عسقلان وداعمة الثورة ضد ابراهيم علي، إلى غيرترود بيل مهندسة العراق الحديث والداعمة لتأسيس خلافة هاشمية في العراق، والمساعد في إنشاء دولة إسرائيل، مرورًا بدورها في «شيطنة» اتفاقية 1936 اللبنانية-الفرنسية وتحقيقها للإستقلال في لبنان وسوريا وصولاً إلى البروتوكول السرّي الموقّع في سيفر تاريخ 24 تشرين الأول 1956، بين حكومات فرنسا وبريطانيا واسرائيل لتنظيم ردّ عسكري-جيوسياسي مشترك على عمليّة جمال عبد الناصر في تأميم قناة السّويس. ومَهّد هذا البروتوكول لإطلاق العدوان الثلاثي على مصر.
فكان تاريخها الطويل في المنطقة، غالبًا دمويًا، وفي بعض الأحيان تجاريًا، وأحيانًا صانعًا للسلام.
ومنذ وقت ليس ببعيد، كان الشرق الأوسط محورًا للأنشطة العسكرية والديبلوماسية للمملكة المتحدة، وقد أدّت المملكة المتحدة دوراً رئيساً في التوسط في خطة العمل الشاملة المشتركة لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية، وكانت نشطت في العراق وسوريا في مواجهة «داعش».
فالتخلي اليوم عن المنطقة في وقت يتسِم بعدم الاستقرار الجيوسياسي المتزايد سيكون خطأ فادحاً، لأنّ الشرق الأوسط سيظل ذا أهمية حاسمة في تحديد هوية القوى العظمى في العصر الحديث.
وإن المملكة المتحدة عائدة وبقوّة، وهي الخبيرة بنسج الإتفاقيات الدوليّة، والسباق اليوم بين إنشاء دول حيادية في المنطقة تشكّل مساحة للتلاقي الحضاري وحلّ النزاعات، أو حلف بغداد جديد، هواه بريطاني (علمًا أنّ أفضل العهود في الشرق كانت حليفة بريطانيا) ينطلق من أرمينيا مع باشينيان البريطاني الهوى، مروراً بسوريا والعراق وصولاً الى لبنان وايران.