وجه الماضي هو وجه الحاضر. الفرادة العربية مرعبة. ولأن نصاب الأمل مفقود، يُعوَّل على التراث. التقدم سمة العصر، التأخر حظ بلاد وشعوب، وجدت نموذجها في قديمها… بلاد ماضية في «التوحش»: عنف بلا هوادة، حروب بلا أفق، تعصب هستيري، ديانات تجثو على فقه ينحر خالقها وإنسانها.
هكذا، يكتمل نصاب العجز: دول من دون قضايا، أنظمة بلا شرعية، شعوب مفتتة وطافرة إلى «أوطان» بعيدة، لا تمت إلى هوية الروح، مستقبل يحتشد فيه سوء الماضي وبؤس الراهن… إن نصاب الفشل يكتمل، والمحاولات الدولية والإقليمية لوقف الكارثة، تشير إلى انعدام الحلول وتكريس «الاستثناء العربي» قاعدة، إلى أجل غير مسمّى.
الوجه العربي السائد مُعدٍ. التعصب والنبذ عابران للحدود والدول والأديان. ما كان اختصاصاً عندنا، بات سلعة عند غيرنا. الأصولية ليست بضاعة إسلامية أو عربية. يتفشى في عالم اليوم ما يشبهها. تنتاب الدول الديموقراطية العريقة نوبات من صرعِ التعصب. دول تنسحب من فلسفة التنوير النهضوية وتركن إلى سهولة التعبير عن الغرائز وهياجها. التعصب ينتشر في الدول الديموقراطية جداً. يحضر في الإعلام والتصريحات والمواقف ويحسم في الصناديق الانتخابية. «الكزينوفوبيا» تروّج بعناوين متعدّدة. الهاربون من الجحيم السوري أثاروا هيستيريا في الغرب.
الأنظمة عالجت المسألة بتبني «الكوتا» ثم التراجع عنها. ثارت حمية القوميات المغلقة. طولبت دول بتعليق «شينغن»، وطالبت بوقف استقبال البؤساء. امّحت صورة الفتى آيلان، غافياً على موته على شواطئ اليونان. استنفرت «فرونتكس» لحراسة الحدود المائية والبرية، رفعت السواتر والأسلاك، تحصَّنت القارة بأسوار من القرارات. حذرت اليونان من التساهل ومن استقبال المزيد من الناجين من غرقهم. أُغريت تركيا بالمليارات لمكافحة تجارة تهريب اللاجئين بأي ثمن… بهذا، تكون أوروبا قد قتلت آيلان مرة أخرى.
بعد مجزرة «داعش» في قلب باريس، ارتفع منسوب «الكزينوفوبيا» وبلغ مرتبة «الإسلاموفوبيا». العدوى انتشرت. غزا اليمين المتطرف صناديق الاقتراع. اكتسح بأرقامه، يساراً ينتسب فعلاً إلى اليمين، ويميناً ليس بعيداً عن جبهة «لوبن» القومية.
فرنسا تتغير وأوروبا كذلك، آثار الحرب المشتعلة في البلاد العربية أحرقت وجه أوروبا «الحضاري» و «الإنساني». الدول التي كانت ماركسية باتت أشد عنصرية وتعصباً وكرهاً للأجانب وأفظع خوفاً وتخويفاً من الإسلام. دول كثيرة تشبه ما عندنا من علل وأمراض. عصر الأنوار انطفأ. الماركسية ماتت، الظلامية الأوروبية في بداياتها، والخوف على مستقبلها.
إحدى الصور البشعة لوجه الغرب، هيستيريا المرشح الجمهوري لمنصب الرئاسة الأميركية دونالد ترامب، مجنون وعصامي معاً. هتلر بلغة إنكليزية. يبشّر بحروب الإلغاء. خطبه، الوجه الآخر لـ «داعش» ولمنطق التكفير والإلغاء والإقصاء. وهو ليس وحده. شعبيته تزداد بازدياد نبرته وجنونه. كلما لوَّح بعداءٍ للإسلام والمسلمين ارتفع رصيده. ماذا لو بات المرشح الأول عن الجمهوريين؟ ماذا لو فاز في الانتخابات؟ سيكون لدينا «بغدادي هنا وبغدادي هناك».
لا دين أو مذهب أو قومية أو عقيدة في مأمن من التعصب والأصولية. المسيحية لم تنجُ من استباحة الدم. فازت في القمع، تفوقت في محاكم التفتيش. الكنيسة فعلت ذلك، ومن خرج عليها افتعل ما هو أفظع: كالفن البروتستانتي حوّل جنيف عندما تحكّم بها إلى ما يشبه قندهار زمن طالبان… اليهودية، في وجهها الصهيوني، هي فعل ارتكاب. جريمة مستدامة. لا نخزة ضمير. دين فقد إنسانيته وقيمه عندما تصهين. «داعش» مستتر بديموقراطية مزيّفة… الإسلام راهناً، في أسوأ حالاته. لا لغة تعبر عن فظاعات أصولية وجهاديين… القوميات العنصرية أشعلت حروباً عالمية… الماركسية أبادت إعلاميين من أتباعها بشبهة الارتداد والانشقاق. التكفير ليس اختصاصاً إسلامياً وعربياً. العالم بات يتشبّه بما عند العرب بنسبة ما.
ولبنان كان سبّاقاً. حروبه تلوّثت بطائفية تفوقت على العنصرية. وطن الغالب والمغلوب معاقب بتخلف مذهبي عطّل الحياة وأقفل المؤسسات. لغة التخاطب فيه مقززة. أفكار تثير الغضب: «القانون الأرثوذكسي»، «المرشحون الأقوياء»، «قانون الجنسية» الخ… بلوغاً إلى مذْهَبَة النفايات. على أن الأفدح إقدام «رجال فكر واختصاص» بكتاب شكوى إلى البطريرك الماروني، تضمّن طلب إلقاء الحُرم الكنسي (أي التكفير) على ثلاثة نواب موارنة، لتقدمهم بطعن بدستورية القانون المتعلق باستعادة الجنسية». مثل هذا الحُرم الكنسي مات من زمان. الكنيسة هجرته. لبنانيون يتبنّونه، إنه الفتك باسم الماضي. كما حصل بسجن أسعد الشدياق في القرن التاسع عشر، بسبب ارتداده وكفره.
أما بعد…
هل من إجابة عن السؤال: «كيف نعيش معاً؟».