ثلاثة رجال تذكرهم العالم هذا الأسبوع. إنهم من قارات مختلفة ومهن مختلفة واهتمامات متباعدة.
في المشهد الأول وفي مقر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، تجمع قادة من العالم حول نعش المستشار الألماني الراحل هلموت كول. تكريم استثنائي لزعيم استثنائي. وكأن الأوروبيين أرادوا لأبناء القارة أن يتمعنوا طويلاً في مسيرة الرجل. المستشار الذي التقط اللحظة التاريخية ووظفها في خدمة بلاده وقارته والعالم.
اغتنم كول لحظة انهيار جدار برلين وبعده الاتحاد السوفياتي ليعيد توحيد ألمانيا من دون رصاصة أو قطرة دم. وكان هذا يكفي لدخول التاريخ. لكنه فعل ما هو أكثر من ذلك. وضع المحرك الألماني في خدمة التكامل الأوروبي واستحق أن يقال عنه إنه كان «ألمانياً عظيماً وأوروبياً عظيماً».
لهذا تحلقوا حول جثمانه. قادة من فرنسا وبريطانيا وأميركا وأنحاء أخرى من العالم. نجح المستشار المديد القامة في إقناع الأوروبيين أن ألمانيا الموحدة لن تعود إلى سياسات الشراهة والعدوان. نجح أيضاً في مهمة أصعب. أقنع الألمان بالتنازل عن آخر الجنرالات الكبار في تاريخهم، وهو المارك، وهكذا فتح الباب لقيام العملة الأوروبية الموحدة.
هكذا تستطيع ألمانيا أن تقول إن كول مرَّ من هنا وأخذها إلى الوحدة والازدهار وشراكات المستقبل.
المشهد الثاني. رجل آخر تذكره العالم. إنه ستيف جوبز الرئيس التنفيذي الراحل لشركة «آبل». فقبل عشرة أعوام أطل الرجل ليهدي العالم «هاتفاً جوالاً ثورياً» و«جهاز اتصال خارق بالإنترنت». في ذلك اليوم استقبل العالم زائراً جديداً هو الـ«آيفون» الذي تبيّن بعد عقد واحد أنه أحدث ثورة شاملة في حياة مئات الملايين في العالم.
ترك ستيف جوبز بصماته على أيامنا. جهاز صغير يقيم في جيبك ويغير علاقتك بالعالم. في الاتصال والتلقي والرسائل والصور والأعمال والترفيه. وهذا التبادل الرهيب للمعلومات والمشاهد. كأنك تحمل في جيبك قوة ضاربة توصلك إلى المعارف وتربطك بالآخر والعصر وذاكرة المستقبل.
غيَّر جوبز حياة الصحافيين أيضاً. جعل كل حامل جهاز صحافياً يلتقط ويرسل ويعلق. ولم يكن أمامنا نحن المقيمين في القلاع القديمة للصحافة المكتوبة غير أن نحاول تغيير أرواحنا وأساليبنا وأزيائنا إذا أردنا البقاء على قيد الحياة، ولتفادي النظر إلينا كما يُنظر إلى الخيول الهرمة.
جوبز مرَّ من هنا. تذكر العالم قوله: «سأعيش كل يوم كما لو كان آخر يوم في حياتي». رفع المشعل وأضاء الطريق. كان محارباً عنيداً بأسلحة العلم والتنافس والتقدم. ذهب مرفوع الرأس إلى محكمة التاريخ.
المشهد الثالث. نحن في الشرق الأوسط الرهيب مواعيدنا مختلفة. أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي «سقوط دويلة داعش» بعد ثلاثة أعوام من إعلانها. والانتصار مهم وضروري ويشكل خدمة للعراق والعالم العربي والعالم. ويجب أن يسجل للجيش العراقي أنه قدّم تضحيات كبرى لإسقاط الدويلة الإرهابية التي أرسلت سرطاناتها في كل اتجاه. لقد أزاح الجيش العراقي من الذاكرة فضيحة العاشر من يونيو (حزيران) 2014 يوم انهارت قطعات كاملة منه في الموصل وحولها أمام هجمات «داعش» الذي استولى في ذلك اليوم على ترسانة كاملة من السلاح الأميركي تركتها الوحدات التي تبددت.
تذكر العالم رجلاً اسمه أبو بكر البغدادي. كانت إطلالة الرجل من الموصل مكلفة لبلاده والمنطقة والعالم. يمكن القول إن الأعوام الثلاثة أنجبت نهراً من الأرامل والأيتام وبحراً من اللاجئين. كم تبدو المسافة بعيدة بين الطريق التي سلكها ستيف جوبز السوري الأصل وقادته إلى «آبل» وإنجازاتها والطريق التي سلكها البغدادي وقادته إلى «داعش» وارتكاباته. كان جوبز يبحث عن تحسين الحياة وشروط العيش والتقدم، وكان البغدادي يستخدم إنجازات جوبز ليرتّب بثَّ صور الذبح والتفجير والتدمير أو لإدارة العلاقات مع «الذئاب المنفردة» المكلفة اغتيال استقرار هذه العاصمة أو تلك. كانت عائدات «آبل» تستخدم في التطوير وتعميق الأبحاث وزيادة القدرات الإبداعية. وكانت عائدات «داعش» تستخدم في مزيد من الغزوات والويلات.
والغريب أن المحارب الأعمى تحوّل، وربما من دون أن يدري، حليفاً لمن ادعى أنهم أعداؤه. لم ينقذ البغدادي العراق بل زاده تفككاً. استهدف الأكراد فدفعوا دماً للدفاع عن إقليمهم و«المناطق المتنازع عليها» وتضاعفت رغبتهم في الابتعاد أكثر عن قرارات بغداد وسياساتها وحروبها. سعر «داعش» نار الفتنة السنية – الشيعية وادعى الدفاع عن السنة، ثم تبيّن أن النكبة الكبرى لحقت بهم على يديه، وأنه لم يفتك بالآخرين بل فتك بهم.
إطلالة «داعش» دفعت المرجع الشيعي آية الله السيستاني إلى إصدار فتوى تجيز حمل السلاح. لم تتأخر طهران في اغتنام الفرصة. حولت المقاتلين الشيعة أفواجاً في «الحشد الشعبي» ونجحت في إعطائهم غطاء شرعياً على طريق جعلهم جيشاً رديفاً على غرار «الحرس الثوري» لديها. أعطت إطلالة «داعش» الجنرال قاسم سليماني فرصة التجوال «محرراً» في الأنبار، مع كل ما يمكن أن يعنيه ذلك للتوازن بين المكونات العراقية. كما تسبب «داعش» في عودة جنود أميركيين إلى الأرض والمقاتلات الأميركية وغير الأميركية إلى الأجواء.
إطلالة «داعش» السورية لم تكن أقل وطأة. اغتالت الانتفاضة السورية وألهت العالم عن قسوة «البراميل». استباحة المقاتلين الجوالين لأرض سوريا بررت أيضاً تدخل إيران عبر ميليشيات متعددة الجنسيات. ممارسات «داعش» كانت الفرصة الذهبية للقيصر الذي كان يتحيّن الفرصة. تحت ستار التصدي لـ«داعش» تدخلت روسيا عسكرياً وعاقبت المعارضة السورية قبل أن تعاقب تنظيم البغدادي.
ما أبعد المسافة بين الوداع الأوروبي لكول وخرائطنا الممزقة أو المرتجفة. ما أبعد المسافة بين أحلام «آبل» وارتكابات «داعش». إنه الشرق الأوسط الرهيب. والد جوبز فرّ منه باكراً. أما البغدادي فمرّ من هنا.