رُغم الطابِع «المُلتبِس» الذي رافقَ ظهور بهاء الحريري مُجدّداً في المشهد السياسي، أوحَت قِلة بأن وريثاً جديداً سيحُل – «مُخلّصاً» – على الطائفة السنية. المؤكد، وعلى خلاف ما سوّقته ماكينة إعلامية تبنّت باكراً الابن البِكر للرئيس الراحل رفيق الحريري، أن بهاء ليسَ سوى «مشروع» غير قابِل للحياة، فلا سياق إقليمياً أو دولياً أو محلّياً يسمَح بولادته
«بهاء الحريري المُخلّص الجديد لطائفة المظلومين». هذا ما كانَ ينقُص بعض المنابر الإعلامية أن تقوله في الابن البكر للرئيس رفيق الحريري. سريعاً، صارَ الرجُل «صيداً ثميناً» لمَن يحمِل أجندة «البِزْنس» خلفَ هويته الإعلامية. وسريعاً أيضاً، صارَ فُرصة عند بعض المُستقبليين القُدامى، مِمن لم تشمُلهُم نعمة التعيين في مراكز قيادة. ومع الفئتين، «متفرّقون» تجمعهم النقمة على «بيت الوسط» والأجهزة الموالية له. لكن مُجمَل هؤلاء لا يُمكِن أن يصنعوا من بهاء الحريري حالة سياسية ولا قائداً ولا زعيماً، ما دام السياق المحلي والإقليمي والدولي غير متوافِر، فضلاً عن أن معركة الاستحواذ على ما تبقّى من إرث الحريرية تحتاج إلى منظومة مُتكاملة: مال وأدوات وعوامل ورؤية. فهل هي مؤمنة؟
من عاشَر الشقيقين «بهاء وسعد» يعرِف أن طبعَ الكرم ليس صفة مُشتركة بينهما. يعني أنه ليس لدى الأول «مال سايِب» يُصرَف لأي كان وكيفما كان. وحتى لو أراد أن يدُخل عالم السياسة من باب «الجوع» الذي يتهدد لبنان، فليسَ هو من النوع الباذِخ، ما يعني أن قُدرته على اختراق الساحة ستكون محدودة.
وليسَ سرّاً أن الثروة الوحيدة التي انتقلت إلى الأبناء بعدَ اغتيال الحريري، هي ماله. لكن رئيس الحكومة السابِق، يتقدّم على شقيقه بكونه حظِي بكل الحاشية السياسية والإعلامية التي رافقَت والدهما، وبقيَت إلى جانِبه حتى عام 2012. وهذه الحاشية ساعَدت الحريري على أن يتربّع على عرش والده والاحتفاظ بجمهور عريض ظلّ يتناقص تدريجاً مع النكسات والهزائم، فضلاً عن عدم تقديم تجربة في السلطة – مع الشركاء الآخرين – حسّنت حياة سكان لبنان. أما بهاء الحريري، فلا يمِلك في انتفاضته على شقيقه إلا نفسه ودانيال الغوش (مستشاره المعروف بـ«جيري ماهر») والمحامي نبيل الحلبي، وإلى جانبهما الوزير السابِق أشرف ريفي. وهؤلاء، عملياً، من دون منفعة حقيقية كبرى. غيَر أن «مقتَل» مشروع بهاء الحريري، هو مستشاره. فهل ثمة من يُصدّق أن مشروعاً سياسياً يُطبّل له من هو معروف بمواقفه المُطالبة بضرب لبنان من قبَل العدو الإسرائيلي، يُمكِن أن يمُرّ؟
«يُصرّ بهاء الحريري على الدخول إلى الحياة السياسية وسيحطّ في لبنان خلال شهرين»، بحسب ما يقول مقرّبون منه. قد يصّح ذلِك، إن كانَت السرديات المقدمّة من «المُباركين» له صحيحة، أمثال الوزير السابِق وئام وهاب. لكن المُطّلعين فعلاً على الأمور يؤكدون أن«بهاء الحريري يتيم إقليمياً ودولياً، وليسَ هناك من جهة تتبنّاه، لا السعودية ولا الإمارات ولا غيرهما». فأساساً، «في ظل الحرب مع الوباء والحرب مع الاقتصاد»، من هي الجهة التي ستستثمر في بلد مثل لبنان بوضعه الحالي؟ الأكيد أن بهاء الحريري أتى متأخراً جدّاً، خاصة أن البلاد في فترة «قحط على كل المستويات»، ولا شيء هنا لقطفه. يكفي أن السفير السعودي وليد البخاري – في «حمأة» صراع الإخوة وتحركات تجديد البيعة في شوارع بيروت والتوتر داخِل الشارِع المستقبلي – يزور «وادي أبو جميل»، علماً بأن«بهاء» كانَ البديل عن «سعد» يومَ نفذت الرياض انقلابها بخطف رئيس حكومة لبنان وإجباره على الاستقالة في تشرين الثاني 2017. في أحسن الأحوال «بهاء يُمكن أن يكون مجُرد مطية للتهويل على سعد ليس إلا»، بمعنى «وضعه كل الوقت تحت ضغط قلق التخلي نهائياً عنه».
مُساعدات وهمية؟
قبلَ أسابيع، تلقّى شخصان في منطقة «سعدنايل» اتصالاً من صديق، يُعلِمهما بأن «فاعِل خير» ينوي توزيع حصص غذائية في المنطقة، وأنهما مدعوان إلى اجتماع لعقد اتفاق معهما على تولّي المهمة، لكونهما من الموثوقين. بعدَ أن حضروا جميعاً إلى المكان المُتفق عليه، وصلت ثلاث سيارات سوداء رباعية الدفع، نزل من إحداها «ناشط» شاب في «الثورة» (أ أ ع). قالَ الأخير لضيوفه إنه «يعمَل بتوجيهات من الشيخ بهاء، وإن الجميع يجِب أن يعلم بأن حق الطائفة مهدور، وأننا نريد استرجاع حقوقنا، والشيخ سيتكفّل بذلك». تفاجأ الحاضرون الذين لبّوا الدعوة، على اعتبار أنها عبارة عن «عمل خير». قال هؤلاء إن «الناس جوعانة ولم تُعد تهتّم بالصراع السياسي ولا بالسلاح ولا بأي شيء»، لكن «الناشط» أصرّ على الأمر، وزعم أن «بهاء هو من كان يُقدّم مساعدات لوجستية من خيم وأكل وشرب للمُنتفضين في قب الياس والمرج ومجدل عنجر». فسأل الحاضرون «وكيف تريدون أن تخوضوا هذه المعركة»، فأجاب بأن «هناك فريقاً نعمل على تجميعه»، ذاكراً من بين فريق العمل المتوقّع رئيس بلدية سعدنايل السابق، زياد الحمصي (المحكوم بجرم التعامل مع العدو الإسرائيلي). والأخير معروف بأنه من «عدّة شغل» الوزير السابق أشرف ريفي. لكن مصادر الأخير قالت لـ«الأخبار» إنه «لا تواصل مع بهاء حتى الآن، ولسنا معنيين بكل ما يُقال».
ولا يبدو حتى الآن أن الرجل مقبول. ففي إحدى بلدات البقاع الأوسط، مثلاً، رفض أحد المخاتير توزيع مساعدات باسم بهاء الحريري، فيما تشير مصادر أمنية إلى أن اجتماعاً ترويجياً لبهاء الحريري عقد منذ أيام في البقاع الغربي، لكن التفاعل معه كانَ ضعيفاً جداً. وأشار هؤلاء إلى أن الحديث عن المساعدات التي يوزعها «مُضخّم»، وأحياناً كثيرة نسمع عن كميات وهمية ولا نرى منها شيئاً. مع ذلك، لاقى الحريري (بهاء) صدىً في مناطق «بر الياس والمرج وصولاً إلى مجدل عنجر»، لكن عندَ «نسبة قليلة من الذين كفروا بسعد الحريري وليس كلهم. الآخرون لا يريدون الدخول في هذا الصراع».
الحركة التي قام بها بهاء الحريري خلقت توتراً عند تيار «المُستقبل» الذي استنفر بعديد قليل يُجدّد للرئيس سعد الحريري «البيعة» في شوارع بيروت. وبالفعل، حتى مساء أمس (قبلَ زيارة السفير السعودي) سادت حالة هلع من أن تكون المملكة تسعى إلى انقلاب ثانٍ، لكن البخاري الذي حطّ في ضيافة رئيسهم سكّنهم مؤقتاً. لكن الحريري لم يطمئن بعد. تصل إليه معلومات عن شخص في الطريق الجديدة، يوزّع المساعدات باسم بهاء. في المقابل، يعتمد «الشيخ سعد» على رئيس جمعية بيروت للتنمية أحمد هاشمية الذي رُفعت صوره إلى جانب الحريري في العاصمة. وقد استقبل هاشمية منذُ أيام المحامي محمد يمّوت في منزله، إذ بحسب المعلومات سيعيَّن يمّوت محل زياد أمين الذي كانَ مُكلفاً بالشؤون القضائية والأمنية في الأمانة العامة لتيار المستقبل، «نظراً إلى علاقة أمين بمقرّبين من بهاء الحريري». هذا السلوك إن كان يدل على شيء، فإنما يدل على قلق، قلق من أن «بهاء لا يمكن أن يخوض معركة سياسية في لبنان، من دون مباركة سعودية». إذا صح ذلك، فسيكون على سعد الحريري أن يخوض معركة لم يكن يتخيّل يوماً أنها ستُفرض عليها، وما كان في وسعه تصوّر التحالفات التي ستحسمها.