Site icon IMLebanon

بهيج طبّارة شاهدٌ على جمهوريتين [1] | حكومة 1973: إمتحان الميثاقية

   

من قلة من رجالات الجمهوريتين: الثانية التي اسقطتها الحرب (1975 – 1990)، والثالثة التي تنحر نفسها. حتى اندلاع الحرب اختبر الحكم مرة في واحدة من محاولات تأليف الحكومات، في الامكان القول انها تختصر معظم ما مرّت فيه حكومات سبقتها او تلتها، في ظل دستور الاربعينات ودستور التسعينات. جرّب ايضاً حكومات ما بعد الحرب. يُقلّب الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة صفحات في الجمهوريتين ودروس كل منهما

 

مهّدت أحداث عام 1973 للحرب اللبنانية بعد سنتين فقط. تكاد السنة تلك تكون حملت كل أسباب انفجار الحرب الاهلية اللاحقة، بين اللبنانيين، وبين المسيحيين والفلسطينيين، أيضاً بين الفلسطينيين والسوريين، وبين العرب والعرب. فيها كذلك ما يكفي من أسباب التناحر الوطني على النظام والدستور وتقاسم السلطة وتأليب الشارع، في مرحلة لمّا تزل تلوذ منذ مطلع الاربعينيات بالأعراف والتفاهمات المتواطئة على هامش النظام. لذا صحّ القول في أحداث 1973 ــ وكانت واجهتها حكومة أمين الحافظ وضحيتها ــ أنها اقتضبت النزاعات المعلنة والكامنة كي تقود لبنان الى الانهيار.

ليل 24 نيسان 1973 اتصل بي الامين العام لمجلس الوزراء عمر مسيكه وقال انه آت الى مقابلتي في منزلي. سألني هل في الامكان حضور زكريا النصولي معي. خابرت زكريا الذي تربطني به صداقة قديمة. سبق ان كتبنا مقالات في الاوريان ـ لوجور بتوقيعنا نحن الاثنين، لاسيما بعد حرب 1967. في ساعة متأخرة من الليل وصل مسيكة الى منزلي. كانت حكومة امين الحافظ على وشك التأليف، ومرسوم تأليفها يتأخر صدوره من يوم الى آخر بسبب الخلافات السياسية بين رشيد كرامي وصائب سلام رئيس الحكومة المستقيل على اثر الانزال الاسرائيلي في 10 نيسان في فردان واغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين هم كمال ناصر وابويوسف النجار وكمال عدوان في منازلهم. بعدما طلب سلام تحميل قائد الجيش اسكندر غانم مسؤولية التقصير واقالته، استقال هو جراء رفض رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه الطلب. وقع اختياره على نائب طرابلس في كتلة كرامي لخلافة سلام. مهمة مسيكة ابلاغنا ان اختيار الرئيسين وقع علينا كي نكون وزيرين في حكومة الحافظ التي ستعلن في الغد. اول سؤال وجهناه: لماذا نحن؟

شرح ان اسمينا لا يشكلان استفزازاً لسلام لأننا غير منغمسين في السياسة وغير منتسبين الى فريق معين.

قلت له: لماذا نحن معاً؟ الثاني منا لن يعطي الحكومة العتيدة اكثر مما يعطيه الاول. لذلك واحد يكفي. اقترح ان يكون زكريا النصولي.

جوابه: قرار الرئيسين اتخذ. فرنجيه ذهب الى النوم والحافظ غادر القصر الى بيته. لا مجال للاخذ والردّ، ومن غير الممكن الاتصال باي منهما. المراسيم أنجزت، وغداً الصورة التذكارية في القصر الجمهوري.

سألناه عن الحقائب. انا للاقتصاد والتجارة وزكريا للصناعة والنفط (كانتا قبلاً حقيبة واحد). سألنا عن الوزراء الآخرين، فأعطانا جواباً مقتضباً.

صباح اليوم التالي تلقينا اتصالاً من القصر يدعونا الى المشاركة في التقاط الصورة. هناك عرفنا ان احد الوزراء، الدكتور نزيه البزري (من كتلة سلام) اعتذر عن عدم المشاركة. قال: نريد حكومة تحافظ على لبنان وحقوق الفلسطينيين.

صدف هذا اليوم، 25 نيسان، اذاعة نبأ وفاة فؤاد شهاب الذي طغى على خبر تأليف الحكومة. تشاءمت من ان يكون اول عمل للوزراء، في اول جلسة لمجلس الوزراء، الوقوف دقيقة صمت حداداً، وان تكون اول مهمة لي وزملائي مشاركة عائلة الفقيد ساعة معهم في جوار الجثمان. ردود الفعل على الحكومة، وعلينا نحن الاثنين، كانت متفاوتة. كرامي يبارك، سـلام يصف الوزيرين السنّيين بـ«النهجيين» فلم يبارك ولم يلعن، كمال جنبلاط واليسار لم يعارضوا تكليف الحافظ، بيان الهيئات الاسلامية اعتبر التمثيل الاسلامي مفقوداً من حيث الوزراء والحقائب وطالب النواب المسلمين بحجب الثقة.

في اليوم التالي، بناء على طلب الحافظ، زرنا سلام في المصيطبة. استقبلنا بلطف، وقال انه يؤيدنا ويتمنى لنا التوفيق. بعد هجمة الهيئات الاسلامية، سألت رئيس الحكومة لماذا احتفظ لنفسه بحقيبة غير ذات اهمية: الاعلام. اجاب انه يعتقد ان الاعلام في هذه المرحلة مهم جداً واشرافه عليه ضروري.

سألته لماذا لم يأخذ الداخلية او الدفاع؟ اجاب انه تعمَّد ذلك كي لا يضع نفسه في الواجهة. في حال حصول خلاف على قرار متخذ يبقى هو المرجع.

لم يكن لوزير الصناعة والنفط (المستحدثة) مكان للجلوس فيه الى طاولة مجلس الوزراء.

تألفت الحكومة في 25 نيسان. بعد اسبوع، 2 ايار، حصل اشتباك بين الجيش والفلسطينيين وقع فيه 13 قتيلاً من الجيش و40 جريحاً و19 قتيلاً من الفدائيين و89 جريحاً.

بدأت الاحداث بإطلاق نار على حاجز للجيش قرب الكولا، ثم تطورت الى اشتباكات. شبح “ايلول الاسود” في الاردن خيّم على الفلسطينيين. اتفق على سحب الجيش والمسلحين ورفع نظام منع التجول تدريجاً. في اليوم التالي 3 ايار تجددت الاشتباكات واشترك الطيران في القصف، وشاع دخول قوات سورية الاراضي اللبنانية بعد اقفال الحدود.

منذ تأليف الحكومة، كنت انتقل الى قصر بعبدا لحضور جلسات مجلس الوزراء بسيارتي من دون مرافقة او حراسة، فيما سيارات الوزراء الآخرين ملأى رشاشات.

بعد تجدد الاشتباكات صعد الحافظ الى قصر بعبدا ليلاً ومعه استقالته يرافقه الوزيران فؤاد غصن وادمون رزق وزكريا وانا. كان قصد جنبلاط مساء في منزله في المصيطبة وانضممنا اليه مع الوزير علي الخليل كما انضم الينا جورج حاوي ومحسن ابراهيم. بعد ذلك ذهب، وكنا معه، الى منزل كرامي الذي نصحه بالاستقالة لأن ثمة “مؤامرة والمياه تجري بين رِجليك من دون ان تشعر». منتصف الليل صرّح الحافظ: “اعتزمت تقديم استقالتي، ولما قصدت الرئيس فرنجيه كان قد دخل مخدعه فأرجأت استقالتي الى الغد».

نمنا جميعاً في القصر لتعذّر الوصول الى منازلنا بسبب القنص على الطرقات.

في الغداة طرأت معطيات جديدة في اتجاه الحلحلة. تصريح لفرنجيه ان لا نية في تصفية المقاومة، ولبنان يريد معاملة الفلسطينيين كما الدول العربية.

بقي الحافظ متردداً بين دعوة كرامي له للاستقالة، ودعوة سلام وريمون اده للمواجهة بشجاعة. بدأت المساعي الحميدة العربية، الا ان كرامي بقي مصراً على ان عدم تقديم الاستقالة «خطأ في خطأ في خطأ». عقب رئيس المجلس كامل الاسعد متوجها الى الحافظ: «بدك تستقيل لأن كرامي وجنبلاط نصحوك الاستقالة… البلاد مش كرامي وجنبلاط. هناك سواهما».

اشتعلت فجأة في 7 ايار وسقط وقف النار.

 

بدأ الطيران يقصف مخيم برج البراجنة. بتنا الليلة في القصر. تذمر الحافظ من انه لم يكن على اطلاع بأن الطيران سيقصف. قلت له هل يجوز عدم اطلاعه على قرار في خطورة كهذه وعلى التعليمات المعطاة الى سلاح الجو بالقصف. كان جوابه: ليش انا كنت عارف؟

 

في تلك الليلة، كان مجلس الوزراء مجتمعاً في جلسة عادية، وقد بلغت نهايتها، اذ بنا نسمع دوي انفجارات. اشتعلت سماء بيروت، وبدأت ترد تقارير امنية عن ضرب المطار. انتقل فرنجيه مع الحافظ والوزراء الى شرفة القصر المتاخمة لغرفة الاجتماعات. كان المنظر مخيفاً. الانطباع ان بيروت تحترق، ولا يمكن معرفة مَن يطلق الصواريخ على مَن، وهي تترك في الاجواء اضواء تشبه الاسهم النارية.

تقرّر اطفاء الاضواء في القصر الذي كان يهتز من وقع القذائف. بعد ربع ساعة، عاد الوزراء الى قاعة الاجتماعات وتقرّر بناء على طلب رئيس الجمهورية اعلان حال الطوارئ بالاجماع من دون نقاش.

هل كان الحافظ يدري ماذا يترتب على اعلان حال الطوارئ؟ هل كان يدري انها ليست استعانة بالجيش لحفظ الامن فحسب، بل تسليمه سلطات واسعة في الاعلام والامن والتوقيف والاحالة امام المحاكم العسكرية. مثابة تنازل لمجلس الوزراء عن صلاحياته للجيش؟ لا ادري. اعلان حال الطوارئ لم يسبقه نقاش، ولا الحافظ سألنا عما يترتب على هذا الاعلان.

قال ان اعلان حال الطوارئ من اجل انقاذ المقاومة والفلسطينيين، وليس العكس.

بدأ الطيران يقصف مخيم برج البراجنة. بتنا الليلة في القصر. تذمر الحافظ من انه لم يكن على اطلاع بأن الطيران سيقصف. قلت له هل يجوز عدم اطلاعه على قرار في خطورة كهذه وعلى التعليمات المعطاة الى سلاح الجو بالقصف. كان جوابه: ليش انا كنت عارف؟

عندما بلغ اليه الالتحام بين الجيش والفدائيين، فجر اليوم التالي، كتب استقالته وقدمها في السادسة صباحاً، وكان حريصاً على ان تُعلن في الاذاعة فوراً. خابر المدير العام لوزارة الاعلام رامز خازن فلم يؤمَّن له الاتصال التلفوني. حاول الاتصال ببعض الصحافيين لينقل اليهم الخبر، فلم يُعط الخط بحجة تعذّره. كان بادي العصبية، حائراً في ما يجب ان يفعله. قلت له: لماذا لا تطلب مخابرة عبد الحليم خدام، لا يستطيع السنترال رفض الاتصال. هكذا فعل. فاذيع خبر الاستقالة من دمشق. اذيع مرة واحدة على الاذاعة اللبنانية ولم تتكرر.

قال للصحافيين انه استقال ولا عودة عنها، ولم يعد يشارك في اجتماعات القصر وغادر من دون تناول طعام الغداء.

كانت ردود الفعل على اعلان حالة الطوارئ عنيفة من جهات اعتبرت انه تنازل عن صلاحياته، وكانت تتهمه بأنه لا يمارسها اصلاً.

لم يعلن فرنجيه قبوله الاستقالة. بدأ الحديث عن دور مجلس النواب في الغاء حال الطوارئ. بحسب القانون، تعرض الحكومة على المجلس قرار الطوارئ خلال ثمانية ايام.

تقرّرت جلسة البرلمان في 13 ايار، بيد انها لم تنعقد. راح يشاع ان الحافظ لن يرجع عن استقالته الا بتحقيق شروطه: اعادة تكليفه بعد قبول الاستقالة واعطاء حقيبة الداخلية الى جنبلاط، على ان يحتفظ رئيس الحكومة بوزارة الدفاع، وتتمثل المعارضة بالوزير السنّي الرابع وتلغى حال الطوارئ.

لكن لرئيس الجمهورية رأياً آخر: حالة الطوارئ مرتبطة بالتفاهم مع الفلسطينيين. اما قبول الاستقالة، فيعني استشارات نيابية جديدة غير معروفة النتائج. لكن في الامكان اجراء تعديل في حقائب الحكومة الحالية.

في هذه الاثناء هدأت الاوضاع نسبياً. بدأ الكلام عن اعادة دمشق فتح الحدود. عقد اجتماع بين فرنجيه والحافظ انتهى بالعودة عن الاستقالة على ان ينظر مجلس الوزراء في رفع حال الطوارئ، في جلسة تعقد بعد بضعة ايام. رد فعل كرامي ان ما يجري ملهاة لا تنطلي على احد، واعلن تبرؤه من نائب كتلته.

ارجىء موعد جلسة مجلس الوزراء الى حين استقرار الاحوال. في 23 ايار التأمت. طرح رفع حال الطوارئ فوافق المجلس. لم ينتظر الحافظ انتهاء الجلسة، بل خرج على الفور ليبشِّر الصحافيين. صرّح ان اليد التي تمتد على الفلسطينيين «سنقطعها». كنا داخل مجلس الوزراء غير مطلعين على ما يجري في الخارج. الا انه بعد رجوعه الى الجلسة، غادر مجدداً ليطلب من الصحافيين ان يضيفوا الى تصريحه ان اليد التي ستقطع هي «يد العابثين او المخربين». وطلب اضافة عبارة: «كل يد ستمتد الى سيادة لبنان سنقطعها ايضاً».

بانتهاء الجلسة طُلب من الصحافيين إلغاء التصريح بكامله، واستبداله بآخر جديد مكتوب عن رفع حال الطوارئ. لكن الصحف كانت قد تبلغت التصريح ونشرته في اليوم التالي.

برفع حال الطوارئ اخذت الحياة تعود الى طبيعتها تدريجاً: فتح دور السينما والملاهي والاعلان عن فتح الجامعات من الاسبوع التالي. بدأ الحافظ في التفكير في ترميم حكومته تحضيراً لمواجهة مجلس النواب.

جاءني اتصال من رئيس الحكومة يقول انه سيرسل اليّ شخصاً ييلغني منه رسالة عاجلة. بالفعل حضر الى منزلي. كانت الرسالة انه يود ان يعرف اذا كنا مستعدين لتقديم استقالتنا، زكريا وانا، في حال اقتضى ترميم الحكومة وتقويتها بادخال وزراء جدد. لم يطلب منا تقديم استقالتنا، بل سأل هل نحن على استعداد لذلك. استغربت جداً الطلب وتوقيته. من دون استشارة زكريا، قلت للرسول فوراً: لسنا في وارد تقديم الاستقالة. جئنا معه ولن نذهب بمفردنا.

مع اقتراب موعد جلسة الثقة في 12 حزيران، اخذت مواقف الكتل تتبلور: مقاطعة ام لا، ثقة ام لا. دعا محمد يوسف بيضون من كتلة سلام الى مقاطعتها بحجة ان الحكومة لا تمثل السنّة تمثيلاً صحيحاً. كذلك بقي موقف الهيئات الاسلامية. اما كرامي فرأى أن يحضر النواب السنَّة ويناقشوا البيان الوزاري ويحجبوا الثقة عن الحكومة. كذلك بيار الجميل اعرب عن عدم رضاه عن الحكومة، وراح يقول ان لا سلام ولا كرامي ممكن لرئاستها في الوقت الحاضر.

بقي هجوم كرامي على رئيس الحكومة عنيفاً: “صحيح اني ايّدته في البدء لكن ما ذنبنا اذا كشفته التجربة على حقيقته، واظهرت عدم اهليته لتولي المنصب”. في وقت تسربت اخبار عن حصار جوي سوري على لبنان، ما يفيد على الاقل انها غير مستعدة لفتح الحدود، بدأ سلام يدعو الى موقف مسيحي متضامن مع الجناح الآخر لئلا تأخذ المعارضة للحكومة منحى طائفياً. اما الاسعد، رغم انه من اشد المؤيدين لرئيس الحكومة، وبازاء الانقسام الكبير الحاصل، كانت عينه على انتخابات رئاسة المجلس في تشرين الاول. حرص على عدم مخاصمة فرنجيه، وفي الوقت ذاته مراعاة مواقف كتل سلام وكرامي وجنبلاط.

كانت الحكومة في صدد اعداد البيان الوزاري بعد حصول رئيسها على جرعة قوة نتيجة رفع حالة الطوارىء. لا تعيين للسنّي الرابع قبل الثقة لعدم الاخلال بالتوازنات الدقيقة داخل المجلس. ثمة مَن رشح جميل كبي، والبعض الآخر نزيه البزري مجدداً.

حيال دعوة سلام الى تضامن مسيحي مع المعارضة السنّية، تمنى كميل شمعون عدم المقاطعة، الا انه يلتزم موقف سلام اذا قاطع الجلسة مع النواب المسلمين. ذهب اده في دمشق وقابل رئيسها حافظ الاسد، وقال لي لاحقاً: انه اذا لم تُفتح الحدود بين البلدين، لا ينصح بالنزول الى مجلس النواب. بدوره مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد دعا بعد زيارته قصر بعبدا الى استقالة الحافظ. سرعان ما عقد اجتماع في دار الفتوى نادى بالاستقالة، لكن الحافظ بقي مصراً على طلب الثقة من المجلس.

كتب غسان تويني في افتتاحية “النهار” في 12 حزيران ان “مأساة امين الحافظ وكل جريمته انه الشخص الاستثنائي للظروف الطبيعية، وليس الشخص الطبيعي للظروف الاستثنائية”.

في وقت كان سلام وكرامي يعلنان قرارهما مقاطعة الجلسة، وجنبلاط يتجه مع كتلته الى قرار مماثل، وشمعون يقول انه يقاطعها اذا كان ثمة اجماع سنّي او شبه اجماع على المقاطعة، ابلغ الحافظ الى المفتي اصراره على مواجهة المجلس كي يثبت لكرامي وسواه انه قادر على تحمّل المسؤولية.

اما نحن، رغم المراجعات والضغوط من كثيرين بينهم الدكتور نسيب البربير وشفيق الوزان بمطالبتنا بالاستقالة، فبقينا مع الحافظ املاً في ان يحمل البيان الوزاري في طياته ما يريح الرأي العام، ويزرع الامل في قلوب الاجيال الجديدة التي توسمت فينا خيراً.

في 11 حزيران اقر مجلس الوزراء البيان الوزاري. كنا اطلعنا على مشروع البيان في الجلسة عند تلاوته، وطلبت الكلام اكثر من مرة. قلت انه يصلح لظرف عادي ويتجاهل الاحداث الخطيرة التي عاشها البلد منذ تأليف الحكومة. طلبت تضمينه حرص الحكومة على طي صفحة الماضي باعداد مشروع قانون عفو عن الاشخاص الملاحقين او الموقوفين نتيجة الاحداث الاخيرة.

تولى رئيس الجمهورية الجواب قائلاً ان الدستور يعطيه حق العفو، وهو سيستعمل هذا الحق كلما رأى ذلك مناسباً.

اجبت: العفو الذي يشير اليه فخامة الرئيس هو العفو الخاص الذي له شروطه، وهو حق دستوري له، بينما المقصود العفو العام بقانون، وهو مختلف جداً اذ لا يجوز ان يبقى الاشخاص ملاحقين وبعد صدور الاحكام في حقهم ينظر في العفو عنهم.

الا ان الرئيس بقي مصراً على موقفه.

 

 

 

طلبت ان يضاف الى البيان ان الحكومة تتعاطف مع الضحايا الابرياء الذين سقطوا في اثناء الاحداث الاخيرة، ومع الذين تهدمت او تضررت بيوتهم وممتلكاتهم، وستساهم في تعويضهم.

هنا ايضاً اجاب الرئيس ان التعويض باب اذا فتحناه لا يعود في الامكان اقفاله، ناهيك بأن امكانات الدولة لا تسمح بذلك.

طلبت الكلام مجدداً لأقول ان الاجيال الشابة تتوقع منا اصلاحات في الحياة السياسية، والا فما معنى وجودنا هنا، اضف ان البيان – خلافاً لكل البيانات الوزارية السابقة – لم يأت على ذكر اعداد قانون عصري للانتخاب.

كان جوابه اقتراح تشكيل لجنة فرعية بعد اقرار البيان الوزاري لاعادة صوغه أكون في عدادها.

بعد رفع الجلسة ومغادرة الرئيسين القاعة، قلت بصوت مسموع اني غير مستعد للمشاركة في عمل اللجنة، ولن استطيع متابعة البقاء في حكومة لا تؤمن لي الغطاء المطلوب في هذه الظروف. في وقت لاحق قال لي عمر مسيكة: لم اسمع مرة وزيراً يخاطب الرئيس فرنجيه على هذا النحو.

كان الحافظ حريصاً على ان تُعلن استقالته في الاذاعة، لكن لم يؤمَّن له الاتصال التلفوني. حاول الاتصال ببعض الصحافيين، فلم يُعط الخط بحجة تعذّره. طلب مخابرة عبد الحليم خدام، فلم يستطع سنترال القصر رفض الاتصال، وأذيع خبر الاستقالة من دمشق

 

عصراً توجهت الى منزل الحافظ مع زكريا، وقلنا له اننا لن نكمل الطريق معه بعد ما شهدناه من عدم تجاوب.

غادرنا وتوجهنا الى قصر بعبدا. كان الرئيس يتعشى مع عائلته وبعض الوزراء. انتظرناه في صالة مجاورة. عندما حضر قلت له اننا لم نلق تجاوباً مع طلباتنا بالنسبة الى البيان الوزاري، وهو امر يُسيء الينا. قال: لكنكما فدائيان.

من هناك توجهنا مجدداً الى منزل الحافظ الذي طلب منا عدم الاستقالة، والنزول معاً الى مجلس النواب على ان نستقيل بعد حصول الحكومة على الثقة. قلنا: الاستقالة تمسي بلا معنى اذا حضرنا للدفاع عن البيان الوزاري كما هو، رغم اعتراضاتنا عليه.

عندئذ قال ان الاستقالة تعطل عليه المثول امام مجلس النواب، وهو مصر على ذلك لأن كرامته في الميزان. قلنا: كل ما نستطيع ان نفعله هو ان لا نعلن الاستقالة ولا نحضر جلسة مجلس النواب. بذلك لا نعطل عليه قرار المثول، ونعلن الاستقالة بعد الجلسة.

هكذا كان.

في الغداة توارينا عن الانظار. قطعنا خطوط الهاتف، ولم نحضر الجلسة التي قاطعها اكثرية النواب السنّة (16 من اصل 20 نائباً بينهم سلام وكرامي). تضامن معهم شمعون ونواب كتلته. رغم المقاطعة اكتمل النصاب، وحضر اده الذي سأل رئيس الحكومة اين هم الوزراء السنَّة؟

اجابه: قضيتهم قيد المعالجة.

اصر اده على عدم مناقشة البيان الوزاري قبل معالجة وضع الوزيرين.

تقرّر رفع الجلسة بناء على طلب رئيس الحكومة “حرصاً على مبدأ المشاركة” من دون تلاوة البيان الوزاري.

لم ييأس الحافظ. بقي مصراً على الاستمرار، محاولاً ترميم الحكومة خلال ثلاثة ايام فلم يُفلح. في 14 حزيران تقدّم باستقالته.

بقيت الحكومة تصرِّف الاعمال الى حين تشكيل “حكومة كل لبنان” برئاسة تقي الدين الصلح في 8 تموز 1973.