Site icon IMLebanon

بهيج طبّارة شاهدٌ على جمهوريتين [2] | رفيق الحريري… الحالم بلقب «هوسمان بيروت»

  

من قلة من رجالات الجمهوريتين: الثانية التي اسقطتها الحرب (1975 – 1990)، والثالثة التي تنحر نفسها. حتى اندلاع الحرب اختبر الحكم مرة في واحدة من محاولات تأليف الحكومات، في الامكان القول انها تختصر معظم ما مرّت فيه حكومات سبقتها او تلتها، في ظل دستور الاربعينات ودستور التسعينات. جرّب ايضاً حكومات ما بعد الحرب. يُقلّب الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة صفحات في الجمهوريتين ودروس كل منهما

 

في هذه الحلقة الثانية يروي الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة تعرّفه على الرئيس رفيق الحريري وسني علاقتهما

 

اقل من ثلاثة اشهر من عام 1973 اختصرت، بزخم الاحداث التي مرت، سنوات من التجارب الشخصية والخبرة. احداث لم نكن ندرك في حينه انها تحمل في طياتها بوادر حرب طويلة مقبلة.

قبل اتفاق الطائف وتعديل الدستور تبعاً له عام 1990، كان رئيس الجمهورية يسمِّي الرئيس المكلف تأليف الحكومة من دون حاجة الى استشارات نيابية ملزمة. وقع اختيار سليمان فرنجيه على امين الحافظ، الشاب المثقف النزيه المليء بالمثاليات، الا ان النجاح لم يُكتب لمحاولته فلم تَعِش. في رأيي لو جاء في ظروف طبيعية كان يمكن ان يكون من افضل رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا في لبنان. شاء قدره ان يحضر في اقسى الظروف واصعبها. اضف ان تأليف الحكومة لم يراع التوازنات الطائفية، اذ أُعطيت الطائفة السنّية حقائب ثانوية (الاعلام والاقتصاد والصناعة)، غير سيادية في المعنى المتداول اليوم، علماً ان احد الوزراء السنّة اعتذر عن عدم المشاركة، ناهيك بأن احدى هذه الوزارات (الصناعة) لم تُنشأ بعد، وكانت لما تزل حبراً على ورق. سمح هذا الخلل بالحملات على الحكومة فور اعلان تأليفها بحجة عدم صحة التمثيل.

بعد مرور عقدين من الزمن، ضمت اولى حكومات رفيق الحريري عام 1992 اربعة وزراء من الطائفة السنّية لم يسبق لأي منهم ان تولى منصباً وزارياً (عمر مسقاوي وحسن عزالدين ومحمد غزيري وفؤاد السنيورة)، كنت خامسهم الوحيد صاحب تجربة مقتضبة. مع ذلك لم تتعرّض لمثل هجمات حكومة 1973. السبب يبدو اليوم واضحاً، هو ان الحريري وفّر لوزرائه، الجدد في عالم السياسة الآتين من خارج نادي الوزراء التقليديين، الغطاء السياسي الكبير الذي كنا نفتقده في حكومة الحافظ، مع ان الحريري يصل الى منصبه للمرة الاولى. لم يكن نائباً، ولا اصبح زعيماً سياسياً، ولا زعيماً سنّياً حتى، متكئاً على شبكة علاقاته في الظروف الاستثنائية تلك، بعد الانتخابات النيابية العامة، وسمعته كصاحب مشروع اقتصادي اعماري احوج ما تكون اليه البلاد الخارجة من الحرب. لم يكن ثمة اعتراض على تمثيل السنّة ما دام الحريري على رأس الحكومة. على انه سيظل يمثل بالنسبة الى وزراء طائفته كما الحكومة برمتها الغطاء السياسي الواسع الذي يتطلبونه. عُيّنت معه وزيراً للعدل اربع مرات (1992 و1995 و1996 و2003)، وفي الخامسة وزير دولة (2000). على مرّ وجودي في وزارة العدل رفض الاطلاع على التشكيلات القضائية التي كنت اعدّها واوقعها، وارفعها اليه كي يمهرها بتوقيعه. راح يجيبني وهو يؤكد دعمه لي: لا لزوم للنظر فيها ما دمتَ وقعتها انت.

حينما اوشك على تأليف حكومة 2003، طلب مني مرافقته الى البقاع. بوصولنا الى شتورة دعاني الى انتظاره في فندق بارك اوتيل بعض الوقت. لدى عودته اخطرني انه كان عند رستم غزالي الذي خلف غازي كنعان في عنجر. قال: مشي الحال. سألته عما يقصد، فكشف لي ان السوريين وافقوا بعد اعتراض على تعييني وزيراً للعدل. اذذاك فهمت مغزى تعييني وزير دولة في حكومة 2000.

لمعرفتي بالحريري اسباب شتى.

 

بيروت الباريسية

بعد تجربة 1973، عدت الى ممارسة المحاماة في مكتبي مع فؤاد بطرس. ما ان اطلت الحرب العبثية عام 1975، وبدأت اعمال العنف مع ما رافقها من خطوط تماس، عملت على محاولات لم يُكتب لها النجاح مع عدد من الاصدقاء لتكوين قوة ثالثة، تقف في وجه الاصطفاف الطائفي وتدعو الى وقف القتال. انكفأتُ عن العمل السياسي الى ان شاءت الاقدار ان ألتقي الحريري، فاعود الى السياسة من بابها الواسع.

اشهراً قليلة اعقبت استقالة حكومة 1973، التقيت وزكريا النصولي وهنري اده الذي كان أُقيل من حكومة صائب سلام عام 1973، على قاسم مشترك هو الشعور بالحاجة الى التعبير عن افكارنا كجيل جديد من الشباب اللبناني المتحرّر من الطائفية والراغب في خدمة بلده. بدأنا البحث عن وسيلة اعلامية تصلح لذلك، الى ان عثرنا على امتياز يخص سيدة من طرابلس هي الفيرا لطوف باسم “المستقبل»، يسمح بإصدارها جريدة يومية او مجلة اسبوعية، بالعربية او الفرنسية. كانت المطبوعة تصدر بتقطع، صاحبة الامتياز محررها الاساسي.

توصلنا الى شراء الامتياز بـ120 الف ليرة تحملناها بالتساوي، ثم أسسنا شركة مساهمة برأسمال قدره 650 الف ليرة، تميّزت بأنها ضمّت حوالى 50 مساهماً من خيرة شباب ذلك الزمن. اكثر من عشرة منهم تولى في ما بعد مناصب نيابية او وزارية كفؤاد بطرس ومحمد الجارودي واسعد رزق وسليم دياب وكميل زيادة ويوسف تقلا ورمزي جريج… استعنَّا بعدد من الصحافيين بينهم شاب ناشئ هو نهاد المشنوق.

 

منذ اوائل التسعينات، في اجتماعات كانت تضمني في جدة والرياض وبيروت مع فؤاد السنيورة والفضل شلق وباسم السبع الى آخرين ذوي اختصاصات مختلفة، نواة فريقه، بدأت تظهر علامات الاحلام السياسية الكبرى عند رفيق الحريري

 

في 31 كانون الاول 1973 صدر العدد الاول من مجلة “المستقبل»، وبقيت تصدر اسبوعياً حتى العدد التاسع في 4 آذار 1974، عندما تقرّر وقفها بسبب خلافنا مع اده على التوجهات السياسية، وحاجتها الى تمويل اضافي. في بعض الاسباب انه لم يسبق اصدار المجلة تفاهم بين المساهمين على الخطوط العريضة للسياسة التي سوف تعتمدها، ما سمح للقيمين عليها بالتفرد في رسم سياستها. بعد سنوات ارتفعت قيمة الامتياز ما سمح لنا بتعويض المساهمين عند التفرغ بها الى الصحافي نبيل خوري الذي اصدرها في فرنسا، قبل انتقالها بعد سنوات اخرى الى الحريري الذي اعجبه الاسم بما يرمز اليه من تطلع الى بعيد. اعاد اصدارها جريدة يومية في لبنان واطلق اسمها على تلفزيونه وتياره السياسي.

كان ذلك اتصالي الاول به من دون معرفة سابقة.

بعد الاجتياح الاسرائيلي سمعت كثيراً عن سعيه الى تنظيف بيروت من الدمار والخراب الذي لحق بها، وعهد فيه الى شركته “اوجيه” والى الفضل شلق. ثم لاحقاً دوره في مؤتمري الحوار الوطني في جنيف ولوزان في عهد امين الجميّل، الى ان تلقيت اتصالاً منه. حضر الى مكتبي في فردان وجلس قبالتي يعرض عليّ مشروع توسيع مرفأ صيدا. طلب مني كمحام التعاون مع وكيله المحامي خليل ابوحمد لدرس امكان تطويره. وضعنا تصوراً لتنفيذ فكرته من طريق ما اصبح يُعرف اليوم بنظام BOT. سرعان ما تبين ان تنفيذه يتجاوز صلاحية السلطات المحلية ويحتاج الى تدخّل المشترع، فصُرف النظر عنه.

ثم كانت مناسبة ثانية للتعاون، حينما طلب مني ايجاد صيغة قانونية تسمح باستيعاب عشرات آلاف من الشباب الذين قرّر اخراجهم من نار الحرب في لبنان وارسالهم على نفقته الى اوروبا او اميركا لمتابعة دروسهم الجامعية. البعض منهم يجهل لغة البلد الذي أرسل اليه. ولأن دول الغرب تعتمد، بالنسبة الى المؤسسات الخيرية التي لا تبغي الربح ويمولها شخص واحد، ما يُعرف بالمؤسسة (Fondation) التي لا يزال التشريع اللبناني يفتقر اليها، اقتضى “لبننة” المؤسسة وتكييفها كي تصب في قالب قانون الجمعيات، رغم ان بابها ليس مفتوحاً امام الجمهور، ولا هيئة ادارية منتخبة لها، بل المؤسس هو لولبها ومموّلها وصاحب الكلمة الاولى والاخيرة. فكانت “مؤسسة الحريري” بعلم وخبر مؤرخ في 18 آب 1983. على الاثر ورشة عمل كبيرة قامت على تقبُّل مئات الطلبات والتدقيق فيها واجراء المقابلات وتوجيه المقبولين من الطلاب نحو الاختصاصات التي تتناسب مع مؤهلاتهم وتحتاج اليها سوق العمل في لبنان.

قبل الوصول الى اتفاق الطائف، وكان احد المشتغلين الرئيسيين عليه شأن حوارَي جنيف ولوزان، بدأ يعمل على مشروعه الضخم: اعادة اعمار بيروت. طلب مني التفكير معاً في هذا الهاجس: كيف يمكن اعادة اعمار الوسط التجاري كي يعود محلاً لتلاقي اللبنانيين بعدما كان مسرح اقتتالهم.

اراد ان يوصف بـ«هوسمان بيروت». استعاد صورة المهندس الفرنسي البارون جورج اوجين هوسمان، عمدة باريس في حقبة نابليون الثالث، الذي اخرج العاصمة من ازقتها الفقيرة والضيقة في القرن التاسع عشر بازالة المباني وجرفها وفتح الجادات العريضة، كي يمسي الرجل باني باريس الحديثة. ولا تزال احدى كبريات الجادات التي شقها تحمل اسمه. طُبعت هذه الصورة في ذهن الحريري الذي اراد تكرار التجربة. كان بدأ ايضاً يفكر في ولوج المعترك السياسي الى اكثر بكثير من دوره كوسيط للتسويات والحلول.

على نحو مماثل، كانت تجربة الشركة العقارية لاعمار وسط بيروت التي عُرفت لاحقاً بـ«سوليدير». توليت وضع قانونها، وحملته الى مجلس وزراء حكومة عمر كرامي عام 1991 لمناقشته على طاولته في الرملة البيضاء، وكذلك في جلسات مناقشته في اللجان النيابية المشتركة، الى ان أقر قبل سنة من وصول الحريري الى رئاسة الحكومة.

كباريس كانت حال الوسط التجاري بعد الحرب. قسم كبير من الابنية تهدّم كلياً او تصدّع او لحقت به اضرار جسيمة، فضلاً عن بنى تحتية محيت تماماً كي ينبت فوق الطرق الحشيش.

تبين لدى التدقيق في اوضاع الوسط التجاري ان ملكية اكثرية عقاراته التي كانت تعود في الاصل الى مالكين متعددين اصبحت، بفعل التقادم، موزعة على عدد كبير جداً من المالكين، عدا المستأجرين الذي حفظ القانون لهم حقوقهم حتى في حال تهدّم البناء كلياً. لذا لم يكن ممكناً ترك الامر الى اصحاب العقارات لكي يتدبر كل منهم امره بنفسه. تكوّن لدينا اقتناع بأن الوسط التجاري اما ينهض بمكوناته كلها معاً او يبقى على وضعه المزري الى ما لا نهاية، مكاناً آمناً للمحتلين والهاربين من وجه العدالة. تبلورت شيئاً فشيئاً، اثر اجتماعات عدة بين الرياض وجدة وكنت الاقيه الى هناك، فكرة اشراك المالكين والمستأجرين في اعادة الاعمار من خلال شركة عقارية تتملك عقارات الوسط التجاري وتسدد قيمتها الى مالكيها واصحاب الحقوق فيها اسهماً في الشركة.

استشار الحريري العلاّمة الفرنسي جورج فيديل الذي اعجبته الفكرة، واذكر انه وصفها بـ«مبتكرة بارعة»، واكد دستوريتها شرط ان تكون الاسهم قابلة للتداول فوراً في البورصة، بحيث يستطيع حاملها ان يسيِّلها ويقبض قيمتها نقداً عندما يشاء.

بسبب “سوليدير” تعرّض الحريري لحملات ظالمة تناولت تخمين عقارات الوسط باعتباره مجحفاً، والتصميم الهندسي للوسط بحجة انه افقد العاصمة هويتها وتاريخها. اللافت ان الحملات لم تتناول الصيغة القانونية التي قامت عليها الشركة، ولا الآلية المعتمدة لاعادة اعمار الوسط التجاري في بيروت، مع ان احداً لم يقدم حلاً آخر يراعي كل الاعتبارات القائمة في حينه.

 

عقوبة الاعدام

منذ اوائل التسعينات، في اجتماعات كانت تضمني في جدة والرياض وبيروت مع فؤاد السنيورة والفضل شلق وباسم السبع الى آخرين ذوي اختصاصات مختلفة، نواة فريقه، بدأت تظهر علامات الاحلام السياسية الكبرى عنده. بوصوله الى السرايا، فكّر في تعييني وزيراً للمال فاخبرته ان مهنتي القانون فاضحيت وزيراً للعدل، بينما حلّ هو وزيراً للمال والسنيورة وزير دولة للشؤون المالية. كان ذلك المخرج الوحيد الممكن كي تؤول هذه الحقيبة الى وزير سنّي، للمرة الاولى منذ ما بعد اتفاق الطائف (1989) بعدما تعاقب عليها شيعيان هما علي الخليل واسعد دياب في حكومات سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح.

بلا مبالغة احفظ عن وجودي في وزارة العدل محطات ذات اثر مهني وشخصي. انقذت رجلاً من الاعدام لم اعرفه، وبالكاد اذكر اسمه. تم ذلك بمساعدة الحريري، وتسبَّب لي في مشاكل مع الياس هراوي.

يوم عينتُ وزيراً للعدل في اواخر عام 1992، كان لبنان خرج من حرب اهلية استمرت 15 سنة خلّفت اكثر من 200 الف قتيل عدا الجرحى والمفقودين والمقعدين. بالفعل عاش المجتمع اللبناني في مطلع عام 1993 كابوساً حقيقياً جراء كثرة جرائم القتل التي تجاوز عددها 30 في الشهر الواحد. حمَّل الناس مسؤوليتها الى القضاء اللبناني، الى البطء في اصدار القرارات وعدم التشدد في فرض العقوبات. تجلَّى هذا الاعتراض، بصورة فاقعة، عندما وقعت جريمة بشعة في البقاع: شاب قتل أُماً وولديها بدافع السرقة.

اجتمعت العشيرتان اللتان ينتمي اليهما القاتل والضحايا وقرّرت انزال عقوبة الاعدام به. وتم تنفيذ الحكم.

حرَّكت هذه القضية الدولة، فتقرّر اعادة العمل بقانون صدر بعد احداث عام 1958. القاتل عن قصد يُعدم وإن لم يكن هناك سابق تصور وتصميم، ولا يحق للمحاكم منح القاتل اسبابا تخفيفية. صدر القانون مطلع عام 1994 وصرّح رئيس الجمهورية انه لن يمنح العفو الخاص لأي مجرم تقضي المحاكم باعدامه.

بالفعل نفذت قرارات اعدام كثيرة شنقاً او رمياً بالرصاص. الى ان صدر قرار محكمة التمييز برئاسة رالف رياشي في 21 تشرين الاول 1997 في قضية شخص لا اعرفه اعتذر عن ذكر اسمه بالكامل (أ.ر.ي.).

جاء في القرار ان ظروف القضية الناتجة عن الانفعال، وعدم وجود اسبقيات للمجرم وعمره (كان يبلغ 67 من العمر)، كلها اسباب تخفيفية تؤدي الى خفض عقوبة الاعدام. لكن القانون يقيِّد المحكمة ويمنعها من منح الاسباب التخفيفية ويلزمها الحكم بالاعدام. لذلك حكمت باعدام (أ.ر.ي.).

حملت الملف الى رئيس الجمهورية وقلت له اني اضمُّ صوتي الى اصوات القضاة في طلب الرحمة. جوابه: تعهدت تنفيذ كل حكم يقضي بالاعدام.

قلت ان القضاة الذين اصدروا الحكم عوّلوا في حكمهم على الحق المعطى الى رئيس الدولة بعدم الموافقة على تنفيذ عقوبة الاعدام.

بقي مصراً، وطلب مني اعداد مرسوم تنفيذ العقوبة. الا انني امتنعت عن اعداده وتوقيعه، لأن ضميري لم يكن يسمح لي بتنفيذ الاعدام في شخص قالت المحكمة انه لا يستحق هذه العقوبة. امتنعت رغم مراجعات رئيس الجمهورية، والضغط الذي حاول ممارسته علي من خلال رئيس الحكومة.

حصل بعد اشهر ان سافرت، فطلب رئيس الجمهورية من الوزير الذي حلّ محلي في تسيير شؤون وزارة العدل اعداد المرسوم وارساله للتوقيع والتنفيذ. تمكّن من حمله على توقيعه، وحُدّد موعد تنفيذ الاعدام في 18 نيسان 1998 ومكان التنفيذ في الباحة الداخلية لسجن رومية. الا ان الحريري الذي كان مطلعاً على الموضوع، مقدّراً الاعتبارات التي املت عليّ موقفي، حفظ مشروع المرسوم في جاروره، واعاده اليّ بعد عودتي من السفر ومزاولة مهماتي كوزير اصيل لوزارة العدل.

لولاه لكان (أ. ر. ي.) أُعدم في ذلك التاريخ.

بقي في السجن، معلقاً بين الموت والحياة، رغم تبدّل العهود، وبقي حكم الاعدام في حقه من دون ان يصدر عن رئيس الجمهورية عفو خاص يخفض العقوبة، الى ان قرّرت السلطات اللبنانية منذ اكثر من عشر سنوات استجابة الضغوط الاوروبية عدم تنفيذ اي عقوبة اعدام صادرة او يمكن ان تصدر عن المحاكم.

عرفت في ما بعد ان (أ. ر. ي.) لا يزال على قيد الحياة بعدما امضى 20 سنة في السجن، ثم استعاد حريته مستفيداً من قانون خفض العقوبات. سمعت تصريحاً له على التلفزيون عندما أُطلق، قال فيه انه لولا شخص لا اعرفه هو وزير العدل بهيج طباره لما كنت اليوم على قيد الحياة.

لكن واقعة اخرى، هذه المرة مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ستترك بدورها اثرها، وكنت غادرت وزارة العدل.

 

شجاران مع برّي

في آب 2001 كنت وزير دولة بلا حقيبة في رابعة حكومات الحريري، عندما انفجرت قضية قانون اصول المحاكمات الجزائية، المعروف ايضاً بقانون الحريات وحقوق الانسان كونه ينظم عمل النيابات العامة والضابطة العدلية، ويراعي قاعدة ان المرء بريء الى ان تثبت ادانته، ويحدد الحالات التي يجوز فيها التوقيف الاحتياطي والمدة القصوى التي يمكن فيها توقيف الاشخاص في اثناء التحقيق معهم.

بعد سنوات من عمل دؤوب لاختصاصيين، وضع قانون جديد لاصول المحاكمات الجزائية وُصف عند اقراره عام 2001 بأنه “قانون رحيم». لكن رئيس الجمهورية اميل لحود مارس حقه الدستوري باعادته الى مجلس النواب لتعديل بعض مواده، اهمها صلاحيات وزير العدل والمدعي العام التمييزي بما يقلِّص صلاحية الاول وسلطته على النيابات العامة، ويوسِّع صلاحيات الثاني. عندما اطلعت الحريري عليها، دعاني الى منزله مع القاضي عدنان عضوم الذي كان يشغل منصب المدعي العام التمييزي. كان جواب عضوم ان وزير العدل وافق على التعديلات. لم اقتنع بالجواب، اذ ان التعديلات المقترحة ليست قضية شخصية بل مسألة مبدئية تتعلق بتوزيع الصلاحيات على نحو متوازن بين السلطات.

في 26 تموز 2001 عقد مجلس النواب جلسة لدرس طلب اعادة النظر في بعض مواد القانون. تخلل الجلسة نقاش طويل حول التعديلات، فكانت النتيجة ان رفض 81 نائباً استجابة طلب رئيس الجمهورية، في مقابل اثنين فقط. كانت المفاجأة ان تقدّم، بعد ايام، عشرة نواب ينتسبون الى معظم الكتل باستثناء الحزب التقدمي الاشتراكي باقتراح قانون معجل مكرر لتعديل المواد ذاتها التي سبق المجلس ان ردّها باكثرية ساحقة. صادف كل ذلك في وقت تعرّض فيه شباب وشابات من انصار العماد ميشال عون والقوات اللبنانية للضرب والاعتقال امام قصر العدل في بيروت في 7 آب.

 

 

 

حضرت جلسة مجلس النواب في 13 آب، متسلحاً باحدى مواد النظام الداخلي التي تشترط من اجل النظر في اقتراح القانون بصورة مستعجلة، من دون عرضه على اللجان النيابية، ان ترفق به “مذكرة معللة” تبرّر العجلة. مثل هذه المذكرة لم تكن موجودة، وكان يصعب تصوّر وجودها.

عندما طرح رئيس المجلس صفة المعجل على التصويت، رفعت يدي طالباً الكلام. الا انه استعجل التصويت معتبراً الهيئة العامة اقرته. حصل عندئذ بيني وبينه سجال.

قلت معترضاً: هذا غير مقبول دولة الرئيس.

ردّ: لم اعطك الإذن بالكلام.

قلت: هذا غير مقبول. لدينا الكثير لنقوله في المعجل المكرّر.

ردّ: قلت لك ان لا تتكلم.

صرخت: هذا لا يجوز، ليس هكذا يكون التشريع.

عقّب برّي: لم اعطك حق الكلام، وتصرخ ايضاً.

قلت: لماذا تعطينا حق الكلام ما دمتَ قد صادقت على ما لدينا من اعتراضات جوهرية وحاسمة عليه. لذا سانسحب ولن اكون شاهد زور هنا. ما يحصل مرفوض.

برّي: إنسحب.

قلت: سأنسحب … انا من اقرّر.

ردّ: قلت لك انني سأعطيك حق الكلام.

جمعت اوراقي قائلاً: لا، هذا غير مقبول. كرامتنا وكرامة المجلس في الدق.

وخرجت.

في تلك الجلسة الحزينة في تاريخ مجلس النواب، قال الحريري: لا اعتقد ان احداً اليوم يحب ان يكون رئيساً للحكومة. الناس ليسوا مع التعديل، ونحن سنسير فيه، ليس لأننا مقتنعون، بل لأن الجو السياسي العام يفرض ذلك.

في النتيجة اقر المجلس التعديلات بـ71 صوتاً في مقابل 7 اصوات وامتناع نائب واحد. الذين كانوا ضدها صاروا بين ليلة وضحاها معها.

تذكرني هذه الحادثة باخرى مشابهة حصلت بعد خمس سنوات، انما بادوار معكوسة.

في ايار 2006 انشغلت الاوساط السياسية بمذكرات جلب صادرة عن القضاء السوري في حق شخصيات لبنانية، بينها نائبان هما وليد جنبلاط ومروان حماده. قرأت اكثرية اللبنانيين اصدار هذه المذكرات سياسياً وليس قانونياً، واعتُبِر مسّاً بكرامة الوطن وتجاوزاً غير مقبول للاصول التي ترعى العلاقات بين الدولتين.

شجاري الثاني مع رئيس المجلس حصل عام 2006، بعدما أصدرت دمشق مذكرتي توقيف بحق جنبلاط وحماده، وتزامن ذلك مع تصريح بري بأن أبواب دمشق مفتوحة لرئيس الحكومة، فسألته اي ابواب؟ ابواب السجون أم ابواب القصور؟ فرد رئيس المجلس: اذا بدك تحاسبني انا حاضر

 

بلغت حدة التوتر ان جلسة مجلس النواب في 23 ايار 2006، المخصصة للاسئلة والاجوبة، خرجت عن جدول اعمالها وشهدت مداخلات لنواب ندّدت بموقف وزارة العدل التي، بدلاً من ان ترفض الطلب لمخالفته النظام العام، ارتأت رمي الكرة في ملعب مجلس النواب.

طلبتُ الكلام – وكنت نائباً عن بيروت – لأبيِّن ان الورقة التي وصلت الى المجلس ليست طلب رفع الحصانة عن نائبين، بل طلب تبليغ اوراق قضائية كان يقتضي ردّها فوراً عملاً بالاتفاق القضائي بين البلدين.

في الشق السياسي اضفت اننا قرأنا في الصحف تصريحاً لرئيس المجلس ان الابواب مشرّعة في سوريا لزيارة رئيس الحكومة، وتساءلت اي ابواب هي المقصودة؟

تدخّل برّي قائلاً: اذا بدك تحاسبني انا حاضر.

اجبت: انت قلتَ ان الابواب مشرّعة. انا أصدقك. لكنني اسأل اي ابواب؟ ابواب السجون أم ابواب القصور؟

هنا حصلت مشادة كلامية بيني وبين رئيس المجلس الذي طلب مني تغيير الموضوع وقرّر رفع الجلسة.

تناولت الصحف الصادرة في اليوم التالي هذا الحادث باسهاب، وروت كيف انني قصدت مكتبه برفقة الرئيس فؤاد السنيورة لتأكيد احترامي وتقديري له اللذين لا يتأثران بانفعال.

كرّر برّي ما كان يردّده في اكثر من مناسبة : انت استاذي في الجامعة.

بالفعل تابع في الستينات محاضراتي عن قانون العمل عندما كنت أُدرِّس المادة في الجامعة اللبنانية.