الإمارات والممالك القائمة على أرض الجزيرة العربية دخلت مرحلة جديدة من التوتر. ما حصل في البحرين أمس، لم يكن سوى صفارة جديدة في سباق البدل الذي تخوضه الحكومات المجرمة ضد شعوبها التي أدركت، كما كل مراقب، انتهاء صلاحية النظم الحاكمة للجزيرة، وأنه آن وقت التخلص منها.
الغرب المستعمر، وإسرائيل، والنظم الحاكمة، ومنظومة التكفير القتالية، كل هؤلاء لن يقبلوا بتغيير قائم على تعديلات سلمية لآليات الحكم، وهم سيقاومون مهما كلف الأمر. لكن رهان النخب الليبرالية في السعودية ودول الخليج، على تدخل أوروبي ــ أميركي، سببه مظاهر القلق عند حكومات غربية من أن يأتي الانهيار على كل منظومة المصالح في هذه المنطقة.
منذ أكثر من عامين، تفاقمت أزمة التدفق المالي في هذه الدول. تراجع أسعار النفط من جهة، وتراجع فعالية المشاريع الاستثمارية الهوائية من جهة ثانية، والتورط في تمويل حروب تدمير مصر وليبيا وسوريا والعراق، ثم الانخراط الكامل في حرب اليمن، والصراع على النفوذ في أفريقيا… كل ذلك، مهّد لإعلان عن واقع لم يكن أبناء الجزيرة يتوقعونه يوماً: إنه زمن تقلص الموازنات وبرامج الإنفاق العامة.
قرارات ستكون موضع تنفيذ هذه السنة وخلال أربع سنوات أخرى على الأقل، تتمحور حول رفع غالبية الدعم الحكومي في دول الخليج. وهو دعم كان يشمل كل نواحي الحياة. وكان يميز المواطن في الجزيرة العربية، ليس فقط عن بقية سكان الدول المجاورة، بل عن الوافدين العاملين في هذه الدول. حتى وصل الأمر الى تحذيرات أطلقتها شخصيات وجهات بارزة في السعودية والإمارات والكويت، من سنوات عجاف، تفرض على المواطنين التعود على تراجع حاد في قدرة دولة الرعاية.
هذا التعديل الجوهري لا يمس عطاءات يمكن التخلي عنها فحسب، بل هو تعديل يمس العقد القائم بين العائلات المسيطرة وبين الرعايا، حيث يمنح الحاكم حصصاً للناس، مقابل البيعة والولاء. وهو ما حال دون أي تطور في الحياة السياسية أو الثقافية أو أي تطور في الدساتير وآليات الحكم.
طغاة الجزيرة العربيّة يريدون حرباً أهليّة مذهبيّة ولو أتت على ما فوق الأرض وتحتها
لكن الذي يحصل اليوم يشي بمعادلة من نوع آخر. قرر الحاكم إلغاء هذا العقد مع الرعايا، من دون أن يدخل تغييرات على سلوكه الاستهلاكي هو، أو على النظام السياسي الحاكم في البلاد. ها هي موازنات الدولة في السعودية تتقلص، ومليارات الصناديق السيادية تنفق على حروب اليمن وسوريا والعراق، بينما يشتري الملك الفعلي، محمد بن سلمان، يختاً بنصف مليار دولار أميركي. ثم يعود شريكه محمد بن نايف الى الدولة معلناً الحرب على الإرهاب، لكنه يقصد فعلاً تطبيق الحكم الأمني ــ البوليسي، بينما يتولى علماء السلاطين إنتاج الفتاوى الدينية المناسبة.
هذه معادلة لا يمكنها أن تستقيم. وما سينجم عنها، صدام منطقي بين الناس والحكام، وهو أمر من شأنه إدخال بلاد الجزيرة العربية في فوضى دموية تقضي على كل شيء، فوق الأرض وتحتها. لكن الحكام الجهلة والمتخلفين، والمتآمرين على شعوبهم، ليسوا في وارد التراجع أو التنازل، وما يقومون به، إنما يدفع نحو المزيد من الجنون والدماء. وهو عنوان استراتيجية دول الجزيرة الرافضة والمعطلة لأي تسويات سياسية في العراق أو سوريا أو اليمن.
أما الجديد عند هؤلاء الحكام، فهو القديم الذي تعرّفنا إليه، نحن، خلال السنوات العشر الماضية، حيث الهروب نحو إضفاء طابع آخر على أي انتفاضة شعبية، وجعل الانقسام حاصلاً على مستوى الناس، لا بين الناس والسلطة. وهذا يتطلب المزيد من الجنون والمزيد من التآمر والمزيد من الدماء.
في هذا السياق، يمكن فهم ما يجري في البحرين. الحاكم هناك، مجرد دمية بيد الطغاة مثل محمد بن سلمان ومحمد بن زايد. وهو أكثر انخراطاً في المشروع الأوسع الذي سينقل علاقة حكام الجزيرة مع المجموعات التكفيرية من مرحلة العلاقة في الخفاء، الى مرحلة التعاون العلني. لأن هؤلاء الطغاة يعتقدون أن الحل الوحيد في مواجهة أي انتفاضات شعبية حقيقية ضدهم، يكون في إشعال الحروب الأهلية في بلادهم، على خلفيات طائفية ومذهبية. وهكذا، بدل أن تكون «الجزيرة» ومن خلفها حكومة قطر، الطرف الإعلامي الذي يقول إن الاحتجاجات الشعبية في البحرين، هي حجة تخفي انقلاباً شيعياً ضد السنّة، يصير عنوان القمع في البحرين والسعودية والكويت والإمارات وقطر، مواجهة الإرهاب الذي تقف خلفه إيران.
لسنا هنا لنراهن على يقظة في عقل هؤلاء المجرمين الذين يحكمون الجزيرة، وهم يعتقدون، واهمين، أن بمقدورهم تجنيب عروشهم النار. لكن المهم هنا، وفي هذه اللحظة بالذات، الرهان على يقظة وحلم ووعي الشارع المنتفض. وفي هذا مسؤولية مشتركة:
أولى تقع على عاتق القوى المنخرطة في مواجهة الحكومات، لعدم مغادرة الخيار السلمي في المواجهات مهما بلغت التضحيات. وخيار السلمية أثبت أن له فعالية تتجاوز كل الخيارات البديلة. فكيف إذا كان الطغاة يستجلبون الدماء بالدماء من أجل الفتنة الكبرى.
وثانية، هي أكبر، وتقع على كل النخب والجمهور في هذه الدول، والتي لا يمكنها الوقوف على التل، أو المشاركة في حفلة الدجل. فهي لن تكون يوماً شريكاً في الحكم، بل يراد لها، اليوم، أن تكون شريكة في جريمة ستجعل أهل الجزيرة ينسون مشاهد العنف والدمار في سوريا والعراق واليمن.