أصدر المجلس التأديبي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي قراراته بحق المستخدمين المشتبه في تورطهم بما سُمّي شبكة «جورج بعينو». أما المشتبه فيهم من خارج الصندوق، فقد أفرج عنهم القضاء بكفالة مالية، رغم أن التحقيقات المختلفة رسمت خريطة واضحة لعمل هذه الشبكة في تزوير المستندات لإصدار براءات ذمّة من الصندوق لمصلحة الشركات التي يمثّلها جورج بعينو
بالاستناد إلى قرارات المجلس التأديبي، أصدر المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي محمد كركي، قرارات عقابية بحق المستخدمين المشتبه في تورطهم بما يُسمّى شبكة جورج بعينو. طُرد اثنان وحُرم ستة مستخدمين التدرج السنوي تبعاً لنوع الأفعال التي نُسِبت إليهم ومستواها، وتلقى اثنان حسماً للراتب، ووجّهت كتب التنبيه إلى اثنين آخرين. كلّ واحد نال العقوبة التي تتناسب مع موقعه الوظيفي وطبيعة الفعل الذي يشتبه في أنه قام به. المطرودون، وهم رئيس مصلحة براءة الذمة بالوكالة (ع. ش)، وأمين الصندوق (م. إ) كانت لديهما صلاحيات واسعة استخدماها، بحسب التحقيقات، لمساعدة جورج بعينو على استصدار براءات ذمّة مزوّرة لمصلحة الشركات التي يمثّلها. مشاركة القسم الآخر من المستخدمين ليست مرتبطة حكماً بالشبكة التي كان يديرها بعينو، بل كانت تنطوي على أفعال إهمال وتقصير وسواها، وهم أيضاً كانوا مستخدمين من فئات أدنى ولديهم صلاحيات متواضعة.
جاءت قرارات المجلس التأديبي بعد نحو سنة من إحالة الملفات عليه من تقارير التفتيش المالي والإداري في الصندوق بالإضافة إلى سائر محاضر التحقيقات القضائية مع المتهمين. وقد توصّل المجلس إلى قناعة بأن الأفعال التي قام بها المستخدمون غير متشابهة، لا لجهة المسؤوليات، ولا لجهة نوع المخالفات.
عمل المجلس التأديبي محصور بمعاقبة المستخدمين المخالفين، وليست لديه صلاحية التوسّع في التحقيقات لمعاقبة غير المستخدمين، ومن بينهم جورج بعينو وإحدى المتعاقدات مع الصندوق (و. ت) والمدير المالي السابق في الصندوق (س. ي) وغيرهم من مستخدمين بلغوا سن التقاعد أو من غير المستخدمين.
مضمون الملفات التي اطلع عليها المجلس التأديبي من محاضر تحقيقات وإفادات المتهمين وتقارير التفتيش، يرسم خريطة واضحة لعمل هذه الشبكة (راجع الاخبار الخميس 1 كانون الأول 2016).
كان بعينو يدير شركة «المضمون» نيابة عن والده منير بعينو، أو بتكليف منه. مجال عمل الشركة يشمل تعقّب المعاملات في الضمان الاجتماعي لمصلحة أكثر من 160 شركة. أنواع المعاملات التي تُلاحَق كثيرة، من أبرزها عملية استصدار براءات الذمّة. وحاجة الشركات في القطاع الخاص لبراءة الذمّة ليست محصورة بأمر واحد، فهناك من يحتاجها كمستند أساسي لعمليات الاستيراد وتسديد الرسوم الجمركية وتخليص البضائع المستوردة، وهناك حاجات تتعلق بنقل ملكية أو تعديل الاسم أو قبض فواتير من الدولة أو المشاركة في مناقصات عمومية…
اعترافات بعينو والتحقيقات أظهرت أن براءة الذمّة كانت تصدر بطريقتين: الأولى تستند إلى وثائق مزوّرة، والثانية تستند إلى وثائق غير مزوّرة. في الطريقة الأولى، استعمل بعينو ختماً مزوّراً لتكوين ملفات تشير إلى أن الشركة سدّدت ما يترتب عليها، وبالتالي صار جائزاً إصدار براءة ذمة لها، أو جرى تزوير وثائق تفيد بأن الشركة غير مسجلة في الضمان من خلال إضافة أو تعديل بسيط على اسم الشركة. بعض الشركات التي كانت مسجلة على أنها (ش.م.ل) أصبحت (ش.م.م.)، واستخدم هذا التعديل للإفادة بأنه لا يترتب على الشركة أي مترتبات مالية للصندوق.
عند هذا الحدّ يأتي دور مستخدمي الضمان. من صلب عمل بعضهم أن يقوم بعملية التدقيق واكتشاف مثل هذا التزوير. رئيس مصلحة براءة الذمّة بالوكالة (ع. ش) أنكر كل ما أُسند إليه من اتهامات، إلا أن التحقيقات أثبتت أن غالبية طلبات براءة الذمة المقدمة من بعينو كانت تخضع لتدقيق مباشر منه بنحو منفصل عن الآلية المتبعة، ما كان يتيح له منح الموافقة سريعاً على المستندات ومن دون إثارة الشكوك. وهناك بعض العمليات المماثلة التي كانت تمرّ عبر الآلية المتبعة حيث كان بعض الموظفين يوافقون عمداً على المستندات المتلاعب بها بعلمهم أو بسبب تقصيرهم وعلاقتهم مع معقبي المعاملات. لم تتمكن التحقيقات من حسم وضعيتهم، سواء كانوا جزءاً من «عصابة» أو «شبكة» يديرها بعينو، أو هم فاسدون يتلقون الرشى من أكثر من جهة، أو أنهم مقصرون بعملهم لا أكثر.
المشكلة في العمليات التي كانت تستند إلى وثائق غير مزوّرة، أنها كانت محور اختلاسات قام بها بعينو. الأخير اعترف مراراً وتكراراً بأنه كان يحصل على الأموال من الشركات ويدفعها عن شركات أخرى ويضع قسماً منها في جيبه ويسدّد منها رشى للمستخدمين المتورطين الذين سمحوا له بتجزئة الشيكات الصادرة عن شركة محدّدة لأمر الصندوق وتسديد مستحقات على شركات أخرى منه. وهذا الأمر كان ينطبق على الأموال النقدية أيضاً.
بعينو يشير في اعترافاته إلى أن عمليات الاختلاس كانت تنفذ بعلم مستخدمي الضمان، لا بل قال إنه تعلّم منهم الأمر. رغم ذلك، تبدو الوقائع متناقضة، إذ إن إقرار بعينو بالتزوير والاختلاس، كان يهدف إلى تحميل الصندوق مسؤولية الأموال المختلسة من الشركات عبر إشراك مستخدمي الضمان في هذه المسؤولية أيضاً. لهذا السبب بالتحديد، ادعى بعينو الأب على ابنه، فهو كان يسعى لتهدئة الشركات التي تطالبه بتسديد المبالغ المترتبة عليها في الضمان والتي دفعتها له. كان الأب يريد إيصال رسالة، بأنه سيتحمل قسماً من المسؤولية، ولكن القسم الآخر سيقع على الضمان.
يتردد أن ضغوطاً مورست على الضمان من أجل وقف عملية طرد المستخدمين
وسعى بعينو دائماً إلى إقامة علاقات مع مستخدمي الضمان أو أي مؤسسة عامة فيها تعقيب للمعاملات. وهذا الأمر كان واضحاً من خلال ما حصل مع أحد مستخدمي الضمان الذي حصل من بعينو الابن على جهاز تلفزيون ومكيف وهدايا أخرى بمناسبة زواجه، من دون أن تكون لديه القدرة والصلاحية على تقديم مقابل «محرز» سوى تسريع المعاملات.
في هذا الإطار، كانت شركة «المضمون» تزدهر وتتوسع لأن لديها القدرة على تخليص المعاملات بسرعة ولديها القدرة على القيام بالألاعيب والالتفافات المطلوبة لإنجاز المعاملات بصرف النظر عن الطريقة. هنا تقع مسؤولية الشركات التي لا يمكنها إنكار معرفتها بأساليب بعينو لتخليص معاملاتها. فقد تبيّن أنها كانت توقع على تصاريح ضريبية خالية من أي موظفين، ما يجعلها غير خاضعة لرسوم الضمان. وهذه التصاريح كانت تشكّل الملف الذي يقدّمه بعينو للصندوق من أجل الاستحصال على براءة ذمة.
ما سبق تكشفه التحقيقات، لكن الكرة الآن في ملعب القضاء الذي أفرج عن كل المتهمين بهذه القضية، بكفالات مالية. بعينو ومستخدمو الضمان خارج السجن. يتردّد أن هناك ضغوطات سياسية كبيرة في هذا الملف الذي يخصّ شركات كبيرة في لبنان، ويتردد أيضاً أن الضغوط التي مورست على الضمان من أجل وقف عملية طرد المستخدمين كانت كبيرة، بل كانت هناك مطالبة سياسية بأن يكون هناك مناصفة طائفية في الطرد!