بحسب المواعيد التقليدية والمهل الدستورية، من المفترض احالة الموازنة الى البرلمان في ايلول، كي يباشر مناقشتها في بدء العقد العادي الثاني الذي انتهى مطلع السنة الجديدة، على ان يذهب الى عقد استثنائي خلال كانون الثاني حتى انجازها قبل نهايته
بسبب تعثر تأليف الحكومة منذ تكليف الرئيس سعد الحريري في ايار، ودخوله الشهر الثامن، لم يحدث اي من المواعيد الدستورية الخاصة بإقرار الموازنة. اكثر من مرة، منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2013، اكد رئيس المجلس نبيه برّي اصراره على التئام المجلس في ظل حكومة مستقيلة، كي لا تنتقل عدوى الفراغ من السلطة الاجرائية الى السلطة التشريعية. طرح على الدوام ما سمّاه «تشريع الضرورة»، وعمّمه كذلك على مرحلة الشغور الرئاسي ما بين عامي 2014 و2016. بعدما اصبح تعّذر تأليف الحكومات يطول الى اشهر، تخلّص من نظرية «تشريع الضرورة»، وبات يؤكد ان للمجلس ان يجتمع في اي وقت، وتمثل امامه الحكومة كما لو انها لا تزال تحكم، رافضاً تعطيل دور البرلمان. وهو ما ابرزته الجلستان الاخيرتان في ايلول وتشرين الثاني.
اما ما لم يقله قبلاً، فهو دعوة الحكومة المستقيلة الى الالتئام، والاصرار عليها اقرار الموازنة، آخذاً بما شاع عن سابقة 1969. المقصود بها الحكومة المستقيلة للرئيس رشيد كرامي، عندما قيل انها في فترة استقالتها التأمت واقرّت «مشروع موازنة 1969». لم يكن الدستور السابق ينصّ على تصريف الاعمال الذي غدا عرفاً قبل ذلك بوقت طويل، اعتمده الرؤساء المتعاقبون عندما يستقيل رؤساء الحكومات، فيطلب منهم رئيس الجمهورية «تصريف الاعمال» الى حين تأليف حكومة جديدة.
يعزو رئيس المجلس موقفه الجديد الى رغبته في استعجال اقرار الموازنة، اذ «ربما طال تأليف الحكومة بينما نحن محكومون بمهل دستورية ملزمة. اريد منها ان تجتمع وتُدخِل اصلاحات مؤتمر سيدر في متن الموازنة، وترسلها إليّ، فاعكف على انجازها في المجلس الى حين الوصول الى حكومة جديدة. لا نضيع عندئذ الكثير من الوقت كما فعلنا حتى الآن».
يضيف: «انا لا اعطي الحكومة مخرجاً ولا اعوّمها، ولا اطلب من اجتماعها الا الموازنة فقط لا غير. لأن المهمة الاولى للحكومة الجديدة هي الموازنة وستنكب عليها في جلسات، ولأن احداً لا يعرف متى تتألف، استعجلها ارسال الموازنة اليّ. للضرورة احكام».
قبل برّي، كان سلفه الرئيس حسين الحسيني اول مَن ذكّر بسابقة «موازنة 1969». في 3 ايار 1988 توجّه الى الدكتور ادمون رباط يسأله رأيه بشأن جدل سياسي ودستوري نشب آنذاك حيال صواب التئام مجلس النواب للتشريع في ظل حكومة مستقيلة، رغم ان المجلس – بحسب الحسيني – سار «على عقد جلسات تشريعية في ظل حكومات مستقيلة، لاسيما خلال عام 1969 عندما اجتمعت الحكومة وهي مستقيلة، واقرت مشروع قانون الموازنة الذي ناقشه واقره المجلس مع وجود حكومة مستقيلة».
رد الدكتور رباط في 15 ايار ان اعاد طرح سؤال الحسيني، قائلاً انه اجاب عنه بنفسه، مؤيداً ملاحظته أنها «في محلها الدستوري بشكل لا ريب فيه، وذلك لأن السلطة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية، ويتوجب عليها ان تستمر في ممارسة صلاحياتها الدستورية بقدر ما تسمح لها الظروف السياسية. واذا كانت السلطة التنفيذية في حال من الشلل والانقسام، فلا تؤلف هذه الحالة ولا يجوز ان تؤلف عائقاً او عذراً كي تسير السلطة التشريعية على منوالها».
في حصيلة رأي رباط ان للبرلمان ان يجتمع مع حكومة مستقيلة، وله ان يجتمع وإن مع حكومة منقسمة على نفسها، وليس ثمة ما يحول دون ادائه صلاحياته الدستورية. بيد ان الجواب لم يتطرّق الى شق الحكومة، وصواب اجتماعها هي المستقيلة، ولا الى سابقة موازنة 1969، بانياً الجواب على السؤال الرئيسي للحسيني حيال انعقاد المجلس للتشريع.
لكن، هل حصل حقاً اقرار الحكومة المستقيلة عام 1969 موازنة تلك السنة؟
في العودة الى محاضر مجلس النواب، فإن موازنة 1969 اقرها المجلس في اربع جلسات عقدها ما بين 18 شباط 1969 و24 منه، ابان وجود الرئيس صبري حمادة على رأسه. ما يعني ان احالة حكومة كرامي عليه مشروع القانون سبق هذا التاريخ. على ان استقالة رئيس الحكومة اتت بعد شهرين. في 24 نيسان تقدّم بها في جلسة مجلس النواب ثم سلمها الى رئيس الجمهورية شارل حلو في الغداة. اعيد تكليفه تأليف حكومة جديدة الا انه جمّد مهمته، واقعاً بين ناري الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية في انحاء شتى من البلاد الى حين التوصل الى اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني. عندئذ، بانقضاء ثلاثة اسابيع صدرت مراسيم الحكومة الجديدة في 25 تشرين الثاني، ومثلت ببيانها الوزاري امام مجلس النواب في 4 كانون الاول، وحازت ثقته في 6 كانون الاول.
منذ 24 نيسان الى 18 كانون الاول، موعد الجلسة الاولى التي تلت جلسة الثقة بحكومة كرامي، لم يلتئم مجلس النواب يوماً جراء الاحداث والاعمال العسكرية آنذاك. ما يعني ان موازنة 1969 كانت قد انجزت سلفاً، لدى السلطتين الاجرائية والتشريعية، قبل ولوج الازمة الحكومية – الاولى في تاريخ لبنان حتى ذلك الوقت – باستمرارها سبعة اشهر بالكمال والتمام.
موازنة 1969 اقرها المجلس قبل شهرين من استقالة الحكومة
مفارقة ذلك الحدث ان كرامي كان رئيس حكومة مستقيلاً، ورئيساً مكلفاً، ورئيساً مكلفاً معتكفاً يمتنع عن تأليف الحكومة بعدما ربطه بتسوية النزاع اللبناني – الفلسطيني.
بعيداً من اي مقارنة، او تشبيه حتماً، هي الآن حال الحريري: رئيساً مستقيلاً ومكلفاً ومعتكفاً ممتنعاً. انتظر كرامي اتفاق العماد اميل بستاني وياسر عرفات لتأليفها، وينتظر الحريري اليوم الوزير جبران باسيل.
منذ 6 كانون الاول 1969 باشرت حكومة كرامي ممارسة صلاحياتها. الا ان محاضر مجلس النواب تورد انه التأم في ثلاث جلسات في 26 كانون الثاني 1970 وفي 27 و28 منه، في عقد استثنائي، برئاسة حمادة وناقش موازنة 1970 واقرها في الجلسة الثالثة.
هنا يُطرح السؤال الذي لا يعثر احد على جواب عنه: هل هي موازنة 1970 وليس 1969، اذا صحّ الافتراض ان حكومة كرامي اقرتها في مجلس وزراء حكومته المستقيلة ما بين نيسان وتشرين الثاني؟ مع تأكيد الانقسام الذي ساد الحكومة المستقيلة حينذاك، جراء الاشتباكات بين الجيش والمقاومة الفلسطينية المتزامنة مع تظاهرات وصدامات في الشارع اوقعت قتلى وتنديد الفصائل والاحزاب اليسارية بحكومته، وهو ما عبّرت عنه مناقشات مجلس النواب في جلسة استقالته في 24 نيسان، وبالذات مداخلات اقطاب ورؤساء كتل لها وزراؤها في الحكومة كادوار حنين وادمون رزق وكمال جنبلاط وكميل شمعون وعبدالله اليافي وصائب سلام وعادل عسيران وبهيج تقي الدين وكامل الاسعد، قبل ان يفاجئ كرامي الجميع باستقالته في السطر الاخير من بيانه.
ما بين 6 كانون الاول 1969 و26 كانون الثاني 1970 يكون انقضى شهر على حكومة كرامي. هل تراها انجزت موازنة 1970 خلال هذه المدة وارسلتها الى المجلس – ما يُسقط «سابقة 1969» – ام كانت تحتفظ بالموازنة في جوارير الحكومة السابقة طوال تسعة اشهر اذا صح انها اقرت في حقبة الاستقالة؟