بُني الاقتصاد اللبناني على رهن مصيره لكمية الدولارات التي يتلقّاها (كديون أو ودائع) وللاستيراد، مقابل ضرب الإنتاج المحلي. بعد سنوات، يأتي حاكم مصرف لبنان لـ«يُصحّح» ما كان شريكاً في ارتكابه، عبر إقفال الباب أمام الاستيراد حتّى للمواد الحيوية: المحروقات والدواء، كوسيلة لخفض العجز في ميزان المدفوعات. وهي وسيلة ستزيد من التضخم والانكماش والبطالة والفقر
معالجة العجز في ميزان المدفوعات التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي دائماً، وتصدّى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لتنفيذها، تقوم على تقليص الاستيراد إلى الحدود الدنيا، واقتصاره على «أولويات» يُحدّدها الحاكم بمعزلٍ عن أي خطة ومن دون مراعاة لحاجات المجتمع، وكأنّ سبب العجز هو كمية الدولارات التي تخرج من لبنان لشراء السلع والخدمات فقط، لا الأموال التي «تُهرّب» عبر المصارف، وبموافقة مصرف لبنان نفسه!
العجز في ميزان المدفوعات «مرضٌ طفا على السطح ليكشف عن مشكلة أعمق»، كما يقول وزير المال السابق الياس سابا لـ«الأخبار». فالعجز «نتيجة لا السبب، ولا يمكن التفكير في معالجة جزئية له بمعزل عن الحلّ العام»، متسائلاً: «عن أي استيراد يتحدّثون؟ التاجر الذي يستورد أفخر أنواع الجبنة الفرنسية لن يتوقّف عن ذلك لأنّ زبائنه قادرون على دفع ثمنها ولم يُغيّروا عاداتهم الاستهلاكية». ولذلك «أصاب تخفيض الاستيراد الطبقات المتوسطة والفقيرة فقتلها… ما من أحد يُعيّن تاجراً لا علاقة له بالسياسة النقدية والاستقرار الاقتصادي حاكماً لمصرف مركزي». يقول سابا ذلك، في معرض تأكيده أنّه ليس بتقنين الاستيراد يُحارب العجز في ميزان المدفوعات، خصوصاً أن ما من بدائل محلية. فـ«غذائياً، كم تبلغ مساحاتنا الزراعية وما هو إنتاجنا؟ وصناعياً، لا نملك موارد معدنية ولا مواد أولية». وعدم وجود اقتصاد مُنتج يؤمّن الاكتفاء الذاتي والتصدير لإدخال الدولارات سببه سياسي. إذ إنّ «نظرية» رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في الاقتصاد «قامت على تصدير أفضل قدراتنا البشرية واستيراد يد عاملة رخيصة. هذه البوطة بنَت نظاماً اقتصادياً مالياً يقع في أزمة إذا لم يستورد ما قيمته 10 – 12 مليار دولار سنوياً، تماماً كسائق الدراجة الهوائية الذي يقع حين يتوقّف عن الدوس»!
حتى سنة 2011 (حين بدأ تسجيل العجز التاريخي لعشر سنوات متتالية في ميزان المدفوعات، فبلغت قيمة العجز 16.1 مليار دولار بين 2011 – 2018، مقابل فوائض بقيمة 25.4 مليار بين عامَي 2002 و2010) كانت الدولارات مؤمّنة، «لأنّ اقتصادنا عاش على الديون ومآسي بقية الاقتصادات». لذلك، فإنّ إقفال حنفية الاستيراد لحلّ العجز «يُعيدنا إلى القرون الوسطى»، الأَوْلَى منه التركيز على كيفية إدخال العملة الصعبة، كـ«تطوير قطاع الخدمات وكلّ ما له علاقة بالتكنولوجيا، كأحد أوجه الاقتصاد المُنتج الذي نبرع فيه». ولكن في الأساس، يجب «تعلّم إنشاء دولة من جديد، وتحديد هوية لبنان ودوره».
تراجع الاستيراد لم يحُل دون ارتفاع عجز ميزان المدفوعات بسبب التحويلات إلى الخارج
سنة 2020، تراجع الاستيراد إلى نحو 11 مليار دولار، من نحو 19 ملياراً في 2019. لكن ذلك لم يحُل دون تسجيل ميزان المدفوعات عجزاً بلغ 10 مليارات و550 مليون دولار، مقابل أقل من 6 مليارات دولار في 2019. الخلاصة الأوّلية لذلك أن العجز ناجم بالدرجة الأولى عن تحويلات مالية إلى الخارج لا صلة لها بالاستيراد، وأن خفضه لا يحلّ الأزمة. في المقابل، تراجع العجز في ميزان المدفوعات إلى مليار و812 مليون دولار في الأشهر الستة الأولى من سنة 2021، أمّا العجز في الميزان التجاري فبلغ حتى آذار 2021 مليارين و61 مليون دولار. يتعمّد سلامة تعدّد أسعار الصرف، وتقنين فتح الاعتمادات لاستيراد الدواء والمحروقات، وترك الليرة تنهار لتنهار معها القدرات الشرائية للسكّان، والارتفاع الجنوني للأسعار، فلا يعود الناس قادرين على شراء حاجاتهم، ما يؤدّي إلى تراجع الاستيراد وتقليص الدولارات المستخدمة لذلك. سلامة وشركاؤه الماليون والسياسيون، ينظّرون لمعالجة عجز ميزان المدفوعات بطريقة مُدمّرة، فيتجاهلون عن عمدٍ الدولارات التي خرجت من حسابات مصرف لبنان والمصارف… «ولم تعُد». مثلاً، تراجعت كمية الدولارات الموجودة في مصرف لبنان بنحو 14 ملياراً و274 مليون دولار سنة 2020. التقديرات الحكومية تُشير إلى أنّ 6 مليارات و400 مليون دولار منها دفعها مصرف لبنان لاستيراد سلع مدعومة (من ضمنها المحروقات لزوم كهرباء لبنان، وهي دينٌ على الدولة تُسدّد ثمنه بالليرة اللبنانية)، ليتبقّى 7 مليارات و874 مليون دولار خرجت من «المركزي» لصالح أصحاب المصارف والمودعين النافذين ولتسديد «التزامات خارجية».
تصحيح ميزان المدفوعات حصراً عن طريق ضرب الاستيراد، ومن دون وجود بديل محلّي، سيؤدي إلى مزيد من ارتفاع أسعار السلع، وزيادة الانكماش، وكبح النموّ، وزيادة البطالة، وارتفاع نسبة الفقر… من دون أن يُتيح الحصول على الدولارات. خفض عجز ميزان المدفوعات، وتقليل الاعتماد فعلاً على السلع الأجنبية، يتمّ بوجود قطاع مصرفي سليم قادر على تمويل القروض الطويلة الأجل، وبتشجيع الاستثمارات، وبتأمين البديل المحلّي ثمّ زيادة الصادرات. يؤكّد مسؤول مالي سابق أنّ «من الطبيعي خلال هذا النوع من الأزمات أن يتراجع الاستيراد، ولكن يجب أن يؤخذ ذلك فرصة لتطوير الإنتاج المحلي لتغطية حاجات السوق». أما في لبنان، فأتى «تعدّد أسعار الصرف ليسدّ أي إمكانية للتطوير». ما يُعتمد حالياً في المعالجة «هو استقرار البلد على مستويات مرعبة من الفقر».
«المدخل الأساس لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات يكون بزيادة إنتاج السلع والخدمات والتكنولوجيا. زيادة الإنتاج تؤدي إلى توفير بدائل للسلع المستوردة وتخفيض العجز في الميزان التجاري وإيجاد مصادر دخل بالدولار»، يقول وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش. الخطوات التي يجب القيام بها وتُساعد في تصحيح ميزان المدفوعات بطريقة مستدامة هي «فرض ضريبة 3% على بعض السلع المستوردة، تُستخدم 1% من إيراداتها لتحفيز الإنتاج الوطني. ويجب زيادة الضريبة على نحو 20 منتجاً لها بدائل محلية. هذان الطرحان لحماية المنتجات الوطنية». أيام تولّيه وزارة الاقتصاد، لم يقبل هذا الطرح الذي قدّمه بطيش، تماماً كما أصدر الياس سابا سنة 1971 قراراً بفرض رسوم على 545 سلعة مستوردة، فأضرب التجار وأقفلوا بيروت ووقّع ثلثا مجلس النواب في حينه عريضة تُجبر الحكومة على التراجع عن المرسوم، ولم يعترض من الوزراء إلا إميل البيطار وجعفر شرف الدين وسابا.
ما يطرحه بطيش أيضاً هو «إعادة النظر في النظام الضرائبي ليكون هادفاً وموجّهاً في خدمة الاقتصاد. إعادة التوازن للميزان التجاري عبر تطوير سلع وخدمات لديها ميزات تفاضلية وقدرة تنافسية، تُنهي وجود اقتصاد استلحاقي بغيره».
ميزان المدفوعات
هو بيانٌ تُسجّل فيه كلّ التبادلات المالية لبلدٍ ما مع بقية دول العالم، وينقسم إلى أقسام عدّة: الحساب الجاري (يضمّ الحساب التجاري وعوائد عناصر الإنتاج…)، حساب رأس المال، الحساب المالي. العجز في ميزان المدفوعات يعني أنّ العملة الصعبة التي دخلت البلد أقلّ من الكميات التي خرجت منه.