Site icon IMLebanon

«بلفور الثاني»: القضية الفلسطينية في المربع الأول

 

 

 

«لقد أعطى مَنْ لا يملك… لمَنْ لا يستحق».

 

 

دخلت هذه العبارة المقتضبة في أرشيف العلاقات العربية – الأميركية، بعدما اختصر بها جمال عبدالناصر القضية الفلسطينية في رسالته الى جون كينيدي.

 

وكان الرئيس الأميركي قد استوضح الرئيس المصري عن حقيقة أزمة الشرق الأوسط، التي كُلفت بلاده بإيجاد حلّ متوازن لها يرضي فريقي النزاع.

 

وتوخى عبدالناصر من وراء جوابه المختصَر الرجوع بالقضية الى جذورها التاريخية، معتبراً أن بلفور وعد اليهود بمنحهم وطناً فوق أرض فلسطين!

 

كذلك، أراد عبدالناصر إثارة اهتمام كينيدي، الى ثمن الاعتراف الرسمي الذي أرضى به هاري ترومان مموّل حملته الانتخابية اليهودي برنارد باروخ.

 

وكان ذلك الثمن غالياً جداً، إذ إن ترومان وصف سفيره في تل أبيب بـ «إبن الزانية»، لأنه تجرأ وطلب من القوات الإسرائيلية التراجع عن احتلال أراضٍ إضافية بعد حرب 1948.

 

وكما أثّر عنصر المال في تشدد موقف ترومان بالنسبة لانحيازه الأعمى لإسرائيل، كذلك أثر اقتراح البليونير اليهودي الأميركي شلدون أديلسون في قرار تسريع نقل السفارة الأميركية الى القدس.

 

ويُعتبر أديلسون من أهم شركاء الرئيس ترامب، باعتبارهما يملكان معاً أكبر مجموعة كازينوهات للقمار في العالم. واللافت في هذا السياق أن هذا الثري أعرب عن رغبته في تمويل بناء السفارة الجديدة في القدس.

 

ورأى الديبلوماسيون في هذا الاقتراح تغييراً جذرياً في سياسة الإدارة الأميركية، التي ترضى بالحصول على تبرعات من أشخاص لا يمتون الى الدولة بصلة.

 

والمؤكد أن هذا التبرع السخي جاء كمكافأة لترامب، كونه تخطى كل المحاذير التي منعت الرؤساء السابقين من الاعتراف بالقدس الموحدة «عاصمة أبدية» لدولة إسرائيل.

 

وكان وزير المواصلات إسرائيل كاتس قد نقل هذه المفاجأة عبر وسائل الإعلام، معلناً أن نقل السفارة من تل أبيب الى القدس سيتم في 14 أيار (مايو) كهدية من الرئيس الأميركي الى الشعب الإسرائيلي لمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس الدولة.

 

واعتبر نبيل أبو ردينة، الناطق الرسمي باسم السلطة الفلسطينية، أن هذا التاريخ يتزامن مع الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية.

 

وقال في تصريح لوكالة «وفا»، إن أي خطوة أحادية الجانب لا تساهم في تحقيق السلام… هي خطوة لن تعطي شرعية لأحد.

 

وعلق أمين سرّ منظمة التحرير صائب عريقات على قرار نقل السفارة الذي يتزامن مع ذكرى النكبة الفلسطينية، بأنه مخالفة فاضحة للقانون الدولي وتدمير كامل لكل اتفاقيات السلام الموقعة مع إسرائيل. وأتبع ذلك بتصريح آخر وصف فيه صدور القرار بأنه استفزاز فاضح لمشاعر العرب والمسلمين والمسيحيين.

 

ولكن حملات الاعتراض والاستنكار التي شملت مختلف الدول العربية والإسلامية – وبينها دول غربية – لم تمنع ترامب من إرسال وفد كبير برئاسة جاريد كوشنير، الصهر اليهودي زوج الابنة ايفانكا.

 

أثناء الاحتفال بهذه المناسبة، ارتكبت قوات الأمن الإسرائيلية أبشع مجزرة ضد الفلسطينيين على حدود غزة.

 

وحصدت مجزرة يوم الإثنين الماضي أكثر من ستين شهيداً، إضافة الى 2800 جريح. كل هذا كان مصدر قلق واستنكار واحتجاج من قبل دول عربية وإسلامية وأوروبية.

 

ويُستدَل من مراجعة تاريخ فلسطين المعاصر، أن انحياز سلطة الانتداب البريطاني كان يدفع السكان العرب الى التمرد والعصيان من أجل المحافظة على حقوقهم المشروعة.

 

ويسجل اميل الغوري في كتابه «فلسطين عبر ستين عاماً»، أن التظاهرة الأولى التي حدثت بواسطة طلبة القدس كانت في سنة 1922. وقد قمعها البوليس البريطاني بقوة السلاح.

 

التظاهرة الثانية التي حدثت في القدس أيضاً بدأت بتجمع المسلمين في ساحة المسجد الأقصى. وحدث أثناء التطواف في الشوارع الرئيسية أن انضم المسيحيون الى المعترضين بزعامة موسى كاظم الحسيني وعارف الدجاني. ولما اخترقت التظاهرة «باب السلسلة»، انضم اليها أعضاء جمعية شباب الأرثوذكس العرب.

 

وفي آخر الأمر، قدّم المحتجون مطالبهم الى القنصليات الأميركية والفرنسية والإيطالية والبلجيكية. وقد تضمنت تلك المطالب ضرورة وقف الهجرات اليهودية المتواصلة.

 

وبعد تجاهل الإنكليز تلك المطالب، دعت الجمعية الإسلامية – المسيحية الى تظاهرة أخرى. وقد احتج أعيان الطائفة اليهودية على مرورها في أحيائهم، الأمر الذي دفع المتظاهرين الى حصر مسيرتهم في الأحياء العربية.

 

وتحت عنوان «ثورة القدس»، كتب المؤرخون عن أول انتفاضة ضخمة جرت في ربيع سنة 1920، اشترك في احتفالاتها الحاج أمين الحسيني، والشيخ عبدالفتاح درويش، وخليل بيدس، وعارف العارف، وموسى كاظم الحسيني، رئيس بلدية القدس.

 

والثابت أن حركات العصيان والتمرد التي استمرت حتى سنة 1947 لم تثمر، ولم تحقق غاياتها لأن القوات البريطانية كانت تساند الجالية اليهودية وتسمح بالهجرات اليهودية من أوسع أبوابها. وكان من الطبيعي أن تتنامى تلك الهجرات بعدما دخل الجنرال اللنبي القدس، وراح ينكل بالمواطنين العرب.

 

وقد نظم في أعماله المتحيزة أحمد شوقي قصيدة جاء في مطلعها:

 

يا فاتح القدس خلِّ السيف ناحية

 

ليس الصليب حديداً كان بل خشباً

 

ولكن الموقف البريطاني الرسمي لم يحصر ظهوره بعنجهية الجنرال اللنبي، وإنما تعداها ليثبت بواسطة وزير المستعمرات في حينه ونستون تشرشل أن لندن مهتمة بسلامة اليهود وضمان المؤسسات التي باشروا في إقامتها.

 

ففي أواخر شهر (آذار) مارس 1921، جاء تشرشل الى القدس للمشاركة في الاحتفال الذي أقامه اليهود لمناسبة وضع الحجر الأساسي لبناء «الجامعة العبرية» فوق «جبل الزيتون.»

 

ووصل تشرشل الى فلسطين بواسطة القطار القادم من القاهرة، ليُقابَل بالبيض والبندورة ومختلف القاذورات التي رماها الطلاب الفلسطينيون على مقصورته.

 

وبما أن التاريخ يعيد نفسه، فقد تذكر بعض الأحياء هذا الأسبوع مشاهد المقارنة بين زيارة تشرشل وزيارة عائلة ترامب للقدس. وقد كرر أربعون ألف شاب فلسطيني يوم الاثنين الماضي الغضب التاريخي ضد ترامب الذي وعد اليهود أثناء حملته الانتخابية بإعلان القدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل!

 

وحجته من وراء تنفيذ ذلك الوعد قوله إنه يحق لأي دولة شرعية تنتمي الى الأمم المتحدة اختيار عاصمتها. ولكنه نسي أن يحقق للفلسطينيين حقوقهم في تثبيت استقلال دولتهم على حدود 1967 وإعادة اللاجئين الى ديارهم وفقاً للقرار 194.

 

بقي السؤال الأخير المتعلق بالمرحلة المقبلة التي تشهدها القضية الفلسطينية، وما إذا كان بإمكان رئيس أميركي جديد أن يلغي قرار ترامب في شأن مصير القدس، تماماً مثلما ألغى ترامب الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه باراك اوباما مع طهران!

 

الجواب عن هذا السؤال المعقد يحتاج الى إبراز حقيقة القرار الذي اتخذه ترامب في شأن مستقبل القدس، وما هي الدوافع السياسية الكامنة وراءه؟

 

في المحاضرة التي ألقاها الأستاذ باسل عقل فوق منبر قاعة المحاضرات في معهد عصام فارس للشؤون الدولية، قال إن ظاهرة الإنجيليين الجدد (المسيحيون – الصهيونيون) لعبت دوراً مهماً في حماية المصالح الحيوية الأميركية.

 

وحقيقة الأمر أن نائب الرئيس مايك بنس، هو الذي فرض على صديقه ترامب إقحام هذا الوعد في سياق وعوده الخمسة. وكان ذلك مقابل تأمين عشرين في المئة من الناخبين الذين ينتمون الى هذه الحركة المشبوهة.

 

وتحت عنوان «المبشر والأصولي»، كشف الكاتب الياس خوري القناع عن وجه نائب الرئيس، خصوصاً يوم ألقى خطابه في الكنيست الإسرائيلي (22 كانون الثاني – يناير – 2018).

 

ووصف الياس خوري حال الانتشاء التي أفرحت هذا الصهيوني – الصليبي الجديد، عندما رأى النواب الفلسطينيين يُطردون من الكنيست لأنهم رفعوا شعار «القدس عاصمة فلسطين.»

 

ويُستنتَج من هذا الكلام أن دونالد ترامب أعطى اليهود من الثمن الذي دفعه له نائبه بنس، وأن دوره في هذا الموضوع لم يكن أكثر من دور يهوذا الإسخريوطي الذي باع المسيح بثلاثين من الفضة!

 

ألم يقل ترامب إن السياسة في نظره هي ربح وخسارة… بيع وشراء!

 

* كاتب وصحافي لبناني